العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)
003.0 سورة آل عمران
ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا
003.1 التعريف بالسورة:
1) هي سورة مدنية. 2) من سور الطول. 3) عدد آياتها 200 آية. 4) هي السورة الثالثة من حيث الترتيب في المصحف. 5) والثانية والتسعون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “الأنفال”. 6) أسماء أخرى للسورة: تسمّى هي والبقرة الزهراوين. 7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:
لفظ الجلالة {الله} تكرر 200 مرّة، و{اللهم} 1 مرة، {لله} 9 مرّات مقارنة بعدد آيات السورة 200 آية. وهو يتناسب مع احتواء السورة على الكثير من أحكام الحلال والحرام، مما يتطلب وجود صفة الإله التي تتضمن كل صفات الترغيب والترهيب. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.
أما مجموع أسماء وصفات الله الأخرى المكررة في السورة فهي: رب 38 مره، عليم 9 مرات، هو 7 مرّات؛ أنزل 6 مرّات؛ وتكررت (5 مرّات) الأسماء: عزيز، يحب؛ (4 مرات): حكيم، قدير، غفور، سميع، بصير، فضل؛ (3 مرّات): رحيم، ذو فضل، يَعلَم، خلق، أنعم؛ (2 مرّة): سريع، خبير، ولي، أعلَم، يُعَلّم، يغفر، جامع، يبين، صدَق، شاهد، طَهَّرَ، نبلو، مخرج، يولج؛ (1 مرّة): الحي، القيوم، ذو انتقام، مالك الملك، رؤوف، حليم، واسع، غني، شهيد، محيط، وهّاب، مولى، شديد العقاب، رافع، أحكُم، محيي، يميت، سمع، خير الناصرين، يريد، سخط، خير الماكرين، يفعل، كتب، بعث.
هي أكثر سورة تكررت فيها كلمة الكتاب بمجموع 32 مرة من أصل 230 مرة تقريباً موجودة في القرآن كله. أكثر سورة تكررت فيها كلمة الإسلام ومشتقاتها 12 مرّة، أهل الكتاب 12 مرّة، {َيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 3 مرّات، {لا إله إلا هو} 4 مرّات.
تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: مؤمنون 45 مرّة، كفروا 43 مرة، كتاب 36 مرّة، تقوى 22 مرّة، الناس 19 مرّة، الذين آمنوا 12 مرّة، حق 12 مرّة، ربنا 10 مرّات، إن الذين 9 مرّات، يا أيه الذين آمنوا 7 مرّات.
003.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:
قال رسول الله عليه الصلاة والسلام “اقرؤوا القرآن فإنّه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه. اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صوافّ، تحاجّان عن أصحابهما”، وهو الحديث الذي ورد في فضلها مع سورة البقرة.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: “اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث سور من القرآن: في سورة البقرة، وآل عمران، وطه “. وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: “اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (163)} البقرة. و{آلم (1) الله لا إله إلا هو الحي القيوم (2)} فاتحة آل عمران.
أخرج سعيد بن منصور والبيهقي في شعب الإيمان عن عمر بن الخطاب قال: من قرأ البقرة وآل عمران والنساء كتب عند الله من الحكماء.
003.3 وقت ومناسبة نزولها:
الآيات (1-32) و (64-120) نزلت بعد معركة بدر التي انتصر فيها المسلمون وهم أذلّة {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلّة (123)}، مما أثار أحقاد اليهود المجاورين للمسلمين في المدينة، الذين بدأوا علانية تحريض قريش والقبائل العربيّة للثأر وشفاء غليلهم من المسلمين. فانطلقوا يكيدون ويتآمرون محاولين تفريق المسلمين، وإلحاق الحيرة في قلوب المسلمين بنشر الشبهات والشكوك في دينهم. وفي هذه الفترة أيضاً قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم، بإجلاء يهود بني قينقاع عن المدينة بعد أن خان اليهود علاقاتهم التاريخيّة مع أهل المدينة، ونقضوا ميثاقهم المبرم مع النّبي عليه السلام عقب مقدمه إلى المدينة.
الآيات (33-63) نزلت بمناسبة زيارة وفد نصارى نجران للمدينة في سنة تسع من الهجرة وسؤالهم عن عيسى عليه السلام.
الآيات (121-200) نزلت بعد معركة أحُد، والتي وقعت على جبل أحد بعد أن ظلّ اليهود يصبّون الزيت على النار المشتعلة في قلوب قريش بسبب معركة بدر، حتى جاءوا بعد سنة بجيش قوامه ثلاثة آلاف (3000) مقاتل بكامل معدّاتهم وقوّتهم ليواجهوا ألفاً (1000) من المسلمين ضعيفي التسليح انسحب منهم ثلاثمائة (300) منافق قبل بدء المعركة التي وقعت على جبل أحُد وسميت باسمه.
003.4 مقصد السورة:
003.4.1- الأمر باتباع طريق الهدى، وهو الصراط المستقيم المؤدي إلى الفلاح والسعادة في الدنيا والخلود في النعيم في الجنة في الآخرة؛ يقابله النهي عن التولي عن الهدى، واتباع سبل الضلال التي تؤدي إلى الشقاء في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة. (سورة البقرة بينت الطريق، وآل عمران أمرت باتباعه)
تبدأ السورة بالتعريف باسم الله الأعظم {الله} لا إله إلا هو، {الْحَيُّ} خالق الحياة وكل ما سواه عدم، {الْقَيُّومُ} فليس في الوجود شيء له بنفسه قوام إلا القيوم، مقوماً لغيره. ولأن الإنسان يحب نفسه ويحب لها البقاء والكمال ودوام الوجود. فإذا عرف أن الله تعالى هو الذي أوجده، وهو الذي أبقاه، وهو الذي كمّله وخلقه في أحسن تقويم، أحب الله لأنه أحب نفسه، فأحب موجد نفسه وهو الله الحي القيوم عليها، وقد علّم الله الإنسان ووهبه المعرفة، ليحبه فيطيعه، ففي سابق علمه سبحانه أن المحبة ثمرة المعرفة تنعدم بانعدامها وتضعف بضعفها وتقوى بقوتها. وفي الآية التي تلتها مباشرة عرّفه أيضاً أنه أنزل الكتاب فيه أمره ونهيه، فوجب أن يطيع الله الذي أحبه لأنه أوجده وأبقاه في أحسن تقويم، فإذا أطاع الإنسان الله أحبه الله، ومن يحبه الله يغفر له ويدخله في جنة النعيم، ومن يكفر فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام.
003.4.2- مقصد السورة نجده في الآيات الأربعة الأولى (1-4): وهو التعريف بأن الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم (أي التوحيد، الله أحد) أنزل الهدى على كل الأمم، وآخرهم أمة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل الفرقان. أما الآيات الثلاثة التي تليها (5-7) ففيها إضافة السبب في أن الله نزل الكتاب يريد أن يهديهم: ذلك أن الله يعلم كلّ شيء، ولا يخفون عليه فهو الذي صوّرهم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم. وتُواصل بعد ذلك الآيات في بيان طريق الهدى وهو اتباع دين الله حتى يكتمل بيان مقصدها في الآيتين (31، 32) (انظر الفقرات التالية)، اللتان تبينان المقصد النهائي من خلق الإنسان، ونهاية الطريق الذي يسيرون فيه، هو الوصول إلى محبة الله بالسير على طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، واتباع هدى الله حتى يحبهم الله ويحبونه، ويغفر لهم، ويدخلهم الجنة برحمته خالدين فيها، ونقيضه التولي والكفر وحب الشهوات واتباع ما يغضب الله، ثم الخلود في العذاب في النار.
وبمعنى آخر تُعرّف السّورة الإنسان على خالقه وتأمره بتطبيق دينه: وذلك باتباع الإسلام (بأركانه الخمسة) هو طريق الهدى، المؤدي إلى الإيمان (بأركانه الستّة) وهو معرفة الله الحق ومحبته وكره الباطل، والمؤدي إلى الإحسان (وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). الدّين عطاء بالخير وليس أخذ بالباطل، وإصلاح لا إفساد، وعمل لا إهمال، دين له شقين نظري وعملي. الدين اتباع للرسول: إسلام وإيمان وأخلاق واستعداد لليوم الآخر، وهو ما ستفصل فيه هذه السورة.
003.4.3- الفرق بين الحب والعبادة: الحب لله (وكذلك الكره للشرك) يبدأ بالمعرفة، فإذا عرفنا الله بأسمائه وبصفاته أحببناه، ثم يدفعنا هذا الحب إلى التقرّب إليه بطاعته، والإيمان والعمل عباداً له كما أمر، فينمو هذا الحب بالممارسة والفعل لا بالكلام والأمنيات، فإذا بعد ذلك عرفنا ربنا بالممارسة يقيناً، أي برؤية نعمه علينا ورحمته وأفعاله فينا، وأنه يهدينا ليسعدنا، ويأمرنا وينهانا بما يوافق فطرتنا، ويغدق علينا نعمه ظاهرة وباطنة، فيزداد اجتهادنا وتقربنا إليه بالعبادة والطاعة، واتباع أوامره واجتناب نواهيه، فلا نزال نتقرب إليه بالطاعة والعبادة كما أمر، ونؤمن به ونتبع هديه ونطيع رسوله، حتى يحبنا ويغفر لنا ويرحمنا. فالله سبحانه يبدأ بالخير ثم يأمرنا بما يحفظ لنا هذا الخير، نحن المحتاجون إلى الله، أما هو فهو غني عنا وعن عبادتنا. ونقيضه التولّي والكفر والخروج من محبة الله كما فعل الكافرون، كل ذلك مصداقاً لقوله، ووعده ووعيده: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)}. فنحن نحب الله لأنه أوجدنا وأحسن إلينا، ونعبده ليدوم بقاؤنا وإحسانه إلينا.
والعبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. ونحن نعبده لأننا نحبه فأطعناه، ولأننا بدون طاعته إلى خسارة وعذاب وهلاك؛ ونعبده رجاء أن يديم فضله ونعيمه علينا؛ وهناك أشخاص لا تؤثر فيهم المحبة ولا الرجاء، فيكون التخويف أفضل لحالهم. فاحتوت السورة على المحبة والرجاء، وعلى الترغيب والترهيب كما سيأتي بيانه.
003.4.4- الإرشاد إلى التطبيق العملي للدين من أجل الوصول إلى حب الله:
003.4.4.1- تبدأ السورة بتعريفنا من هو الله عزَّ وجلَّ، ويكفي أن نعلم أن الله لا إله إلا هو لكي نحب الله، وهي الصفة التي تكررت في السورة أربع مرات (أي أكثر سورة)، ويكفي أيضاً أن نعلم أن الله هو الحي القيوم، القائم بأمورنا، والعزيز الحكيم، بحكمته خلقنا وهدانا لكي نحبّه. لأن الإنسان كلما ازدادت معرفته وعلمه بالله، ازداد تعلقه به وازدادت خشيته، وأحسن تعامله مع ربِّه قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (28)} فاطر، فالخشية (تقوى) تمنع من المعصية كما أن الطاعة (محبة) تدفع إلى العمل، واليقين (علماً) يهوّن المصائب، وفي دعاء القنوت: “اللهمّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصائب الدُّنْيَا”، وهذا هو مقصد السورة أي الامتناع عن المعصية والعمل في طاعة الله، باتباع هديه تعالى وسنة رسوله، والصبر على البلوى، فإذا فعلنا ذلك أحبّنا الله.
هذه السورة عرفتنا على الكثير من أسماء الله تعالى، وأسماء أخرى في القرآن سنعلمها، وتوجد أسماء وصفات أخرى لا نعلمها استأثر الله بها في علم الغيب عنده، فلا يمكن لأحد الإحاطة بكل صفاته، ولا الثناء عليه بما يكافئ كماله وجلاله وجماله، فكل كمال في هذا الكون هو من أثر كماله، وكل جمال فيه هو من أثر جماله. أعظم سعادة للإنسان هي أن يعرف الله، لذلك أعظم نعم الله على الإنسان أن يدخله الجنّة، وأعظم ما في الجنّة أن يرى الإنسان ربّه، فهي أعظم سعادة يفرح بها وينتظرها، لأن الله هو خالق السعادة وإليه منتهاها، وكلما اقتربت من الله تعالى أكثر، زادت هذه السعادة أكثر، فإذا رأيت ربك فتلك هي السعادة الحقيقية التي ما بعدها سعادة.
003.4.4.2- الآية {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (14)}، تحكي حال الغالبية العظمى من الناس وهم يسارعون يركضون وراء هذه الشهوات المذكورة لا لأنهم يحبونها فقط ولكنها زّينت لهم أيضاً، ولشدة حبهم لها تملكت قلوبهم، وحجبت عقولهم، وصارت الدنيا وشهواتها هي مقصد وجودهم، وهي كل شيء في حياتهم يتمتعون فيها بأقصى ما يستطيعون، ويتكالبون عليها بكل الحيل والوسائل، ويقتل بعضهم بعضاً، فلا هدف في حياتهم إلا الإكثار منها، فلا آخرة تنتظرهم ولا حساب يسائلهم ولا رب يعاقبهم. لكن هذه الشهوات متاع مؤقت جعله الله لإعمار الدنيا، وفي الآخرة الله عنده حسن المآب {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14)}. فانتبهوا يا أولي الألباب فلا تخسروا الآخرة لأجل الدنيا.
003.4.4.3- الآية {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)}، انتبهوا يا أولي الألباب فإن كنتم تحبون هذه الشهوات، فيوجد خير منها، فاصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله، لتحصلوا عليها أضعافاً مضاعفة، ونعم دائمة وخالدة في جنات وأنهار وأزواج ورضوان من الله.
003.4.4.4- الآيات (31، 32) أن الحب عمل وليس أمنيات: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)}. إن صدّقتم كلام الله وأحببتموه بسبب ما عرفتموه من أسمائه وصفاته، وبما أسبغه عليكم من النعم في الدنيا، ولما أعده لكم من النعيم الخالد في الآخرة، فاتبعوا رسول الله، وأطيعوا الله والرسول يحببكم الله، فإذا أحبكم الله أدام عليكم نعيمه في الدنيا، وغفر لكم ذنوبكم، وآتاكم مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في الآخرة. انظر أيضاً تسهيل فهم وتدبّر القرآن، المبحث: 7.3.6- سعادة الإنسان بمحبة الله.
003.4.4.5- هذه السورة في القرآن هي سورة العمل ومحبة الله، فهي أكثر سور القرآن تكررت فيها كلمة الحب ومشتقاتها 16 مرّة من أصل 83 مرّة في القرآن كلّه، فتبين من هم الذين يحبهم الله ومن هم الذين لا يحبهم، فإذا كنت من أولي الألباب وتسعى إلى الهدى إلى الصراط المستقيم الموصل إلى النعيم الخالد لا النعيم المؤقت الزائل فاعمل بما يرضي الله وبما يحقق لك حب الله، وتجنب ما لا يحبه الله، واستعذ بالله منه، وهذا هو الهدى العملي، كما يلي:
003.4.4.5.1- الله يحب هذا الصنف من الناس: المذكورين في الآية (76) المتقين؛ والآيات (134، 148) المحسنين؛ والآية (146) الصابرين؛ والآية (159) المتوكلين. …..فكن منهم
003.4.4.5.2- الله لا يحب من الناس: المذكورين في الآية (32) الكافرين؛ الآيات (57، 140) الظالمين. …. فلا تكن منهم.
003.4.4.5.3- أعمال وأشياء يحبها الناس: هذه الآيات الأربعة (92، 119، 152، 188) تتحدث عن أربعة أعمال أو أشياء يحبها الناس، ويدفعهم حبهم لها إلى العمل، إما بما يرضي الله أو بما يسخطه، وتبين جزاء أعمالهم، في حال كانوا يبتغون بفعلها مرضات الله أو غير ذلك، كما يلي:
003.4.4.5.3.1- الإنفاق مما تحبون: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)}، لن ينال أحد البر حتى ينفق مما يحب، والبر هو الإيمان والإسلام والمعاملات، انظر معنى البر في الآية (177) من سورة البقرة.
003.4.4.5.3.2- محبة وموالاة غير المؤمنين: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)}، تحذير شديد من محبة غير المؤمنين وموالاتهم واتخاذهم بطانة، فهم أعداء محاربين كافرين مشركين، يغيظهم الحق وأصحابه، وغيرها من الصفات والأفعال القبيحة التي بينتها الآيات قبل وبعد هذه الآية.
003.4.4.5.3.3- منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)}، بداية لأنهم أرادوا الآخرة نصرهم الله، ثم بعد أن ركضوا وراء الدنيا صرفهم الله عن النصر الذي رأوه بأعينهم.
003.4.4.5.3.4- المنافقين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)} المنافقون، وأهل الكتاب الذين يفرحون بما يفعلونه في السر، بكتمان الحق ومعصية الله ومحاربة المؤمنين، وفي نفس الوقت يفرحون بأنهم يظهرون الطاعة لله ورسوله، هم أهل نفاق ولهم عذاب أليم.
003.4.4.6- كل ما في السورة من أسماء الله وصفاته، والكلمات المكررة فيها، هي ذات صلة بمقصدها، وكذلك القصص هي قصص مصطفين عرفوا الله فأحبوه وأمنوا به واتبعوا هديه، والتشريعات الجديدة التي لم تذكر إلا في هذه السورة عن الإنفاق مما يحبون والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم موالاة الكافرين والقتال وغيرها، لها علاقة بالاصطفاء، وكلها غرضها تسهيل فهم مقصد السورة وموضوعاتها الرئيسية.
003.4.4.7- للمزيد من التفصيل عن الحب من قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (54)}، انظر سورة المائدة في كتاب التسهيل، الفصل: 005.7.6- سياق السورة باعتبار قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (54)}. وانظر في تسهيل فهم وتدبّر القرآن، الفصل 7.3.6- سعادة الإنسان بمحبة الله، والخاتمة، 00.1- محبة الله.
003.5 ملخص موضوع السورة:
تبيّن سورة آل عمران كيفيّة تطبيق دين الله، الذي سبق تفصيلُه في سورة البقرة، والمتمثل بالعبادة والطاعة والصبر على الابتلاء، وتُبيّن السورة كذلك كيفيّة اصطفاء الله لعباده المؤمنين المصطفين، وهم آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران عليهم السلام أجمعين وأمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم. وهي سورة العمل الذي أمر به الدين، وفيها دليل محبّة الله لعباده، فكانت أكثر سورة ذكرت فيها كلمة “الحب” بعدد ست عشرة (16) مرّة من أصل ثلاث وثمانين (83) مرّة في القرآن كلّه.
003.5.1- وباعتبار ترتيب آياتها، احتوت سورة آل عمران على أربعة مواضيع رئيسية في أربع مجموعات من الآيات، كما يلي:
003.5.1.1- مقدّمة: الآيات (1-32) تأمر بالتطبيق العمليِ للهدى، والتعريف بأن الله واحد حيّ قيوم، لا يخفى عليه شيء، يراقب الناس، وبحكمته أنزل عليهم الهدى ليرى ما هم فاعلون، فيعاقب الكافرين ويكافئ المؤمنين. واختلاف الناس إلى ثلاث طوائف: طائفة مصطفاة تحب الله واتبعت الهدى، وطائفتان كافرتان اتبعتا حبّ الشهوات.
وفيها التعريف بوحدانية الله، لا إله إلا الله هو، وأنه الحيّ، القيوم، العزيز، الحكيم، مالك الملك، المعزّ، المذلّ، بيده الخير، وغيرها من الأسماء الحسنى والصّفات الفضلى المذكورة في السّورة. أنزل الكتب بالحق وأنزل الفرقان: يفرق بين الحق والباطل. وليس أمام طالب الهدى وباغي النجاة إلا اتّباع هذا الحق.
003.5.1.2- ثم ثلاث مجموعات من الآيات، تسرد قصصاً وأمثلة يتخللها تعقيبات عن تجارب وابتلاءات وممارسات وأعمال حقيقية، طهّرت المؤمنين من الشرك والفساد، ونمّت فيهم حبّ الخير والحق والعدل والرحمة، وبقي الكفار وأهل الكتاب في شركهم وحبهم للدنيا وحربهم على الدين، ينحدرون في الغيِّ والضلال حتى أهلكهم الله. وفيها بيان سنن الله في الابتلاء وتمحيص الأعمال، بذكر قصص حقيقية تبين كيف يصطفي سبحانه من الناس أفراداً وجماعات وأمماً، يحبهم ويحبونه، وليكونوا قدوة في الطاعة والاهتداء، فهو يختص برحمته وفضله العظيم من يشاء.
السورة فيها نماذج عن أناس يحبون الله فاصطفاهم وأحبهم الله ترغيباً للمهتدين، وفيها نماذج عن معرضين من أهل الكتاب والمنافقين عذبهم الله تحذيراً من فعلهم؛ من أراد الفلاح فعليه الاقتداء بالصفوة الذين اختارهم الله ليكونوا مثالاً يحتذى، وتجربة عملية حقيقية؛ هم أناس آمنوا بالكتاب، ومارسوا الإيمان بقلوبهم وجوارحهم، أناس صبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله فأفلحوا، كما يلي:
003.5.1.2.1- أولاً: الآيات (33-63) قصّة اصطفاء آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين. فئة مختارة مهتدية من الناس، ليكونوا رسلاً وهداة للعالمين. وليكونوا أئمّة في تطبيق دينه، يهدون بأمره ووحيه، ليكشف تحريف أهل الكتاب لكتبهم ودينهم، ويبين لهم ضلالهم عن معرفة حقيقة أنبيائهم فجعلوهم ابناء لله، وفيه تحذير للمسلمين من تصديقهم وتقليد ضلالاتهم.
003.5.1.2.2- ثانياً: الآيات (64-120) كشفت قصة الاصطفاء هذه مدى انحراف أهل الكتاب عن دين الله، وهي حجّة على تحريفهم لكتابهم ودينهم ودحض شركهم وكذبهم بأنهم على ملّة إبراهيم عليه السلام، ودليل على أنّ دين الله واحد وهو الإسلام، وأنّ المسلمين يعبدون الله وحده لا شريك له، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وجاء هذا الجزء من السورة، مع الذي قبله، ليفيد غرضين: الأوّل الاصطفاء والقدوة الصالحة للمؤمنين، والثاني ليجادل بالحجة والحقيقية الغير محرفة، عن نبي الله عيسى عليه السلام وعن آل عمران الذين منهم مريم أم عيسى عليه السلام، فيدحض بذلك ضلال النصارى عن معرفة حقيقة نبيهم فجعلوه ابناً لله. وأن عيسى عليه السلام بشر اصطفاه الله كما اصطفى غيره ليكونوا، أئمّة في تطبيق دينه، ويهدون بأمره ووحيه. فهي جهاد بالحجة والدليل مع أهل الكتاب، لتبرئة دين الله من كل دعوى أو شائبة الصقت به، والرد على شبهات أهل الكتاب خاصة النصارى، وتوجيه المسلمين إلى عدم تقليد ضلالاتهم.
وقد ذكر النصارى فيما يزيد على مئة وعشرون (120) آية من أول السورة.
003.5.1.2.3- ثالثاً: الآيات (121-200) قصّة اصطفاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ليكونوا هم الأعلون بإيمانهم، وليكونوا خير الأمم في اتباع الهدى وفي الدعوة إليه. فالهدى أعمال لا أقوال، والإيمان يزداد بالممارسة العمليّة ورؤية نتائج الأعمال على الأرض، لا بالأماني وترديد الأقوال.
اصطفى الله سبحانه أمة محمد صلى الله عليه وسلم لتكون قدوة لباقي الأمم. وذكر من قصص ابتلاءها وتمحيصها غزوتي بدر وأحد، ففيهما تجارب ودروس عملية حقيقية عن الإيمان، تتعلّمها {خير أمّة أخرجت للناس}. أخرجها الله أمّة (اصطفاها) تدعوا إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله وتجاهد في سبيله بكل وسائل الجهاد بالكلمة والمال والإعداد والنفس، وتسارع إلى مغفرته. فبعد أن كان الجزء الأول لغاية آية 120 من السورة، في الابتلاء بالتحريف والتضليل والمتشابهات، والجهاد بالحجة والبيان. جاء هذا الجزء لبيان سنن الله في الابتلاء، في الأموال والأنفس، وأحكام الجهاد والقتال في سبيل الله للحفاظ على الدين.
وقد ظلت السورة تحثّ المسلمين على أن يكونوا: {خير أمّة أخرجت للناس}، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسارعة إلى المغفرة، والإنفاق، وأن لا يكونوا {كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات (105)}، ثمّ الترغيب والحث على الموت في سبيل الله {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربّهم يرزقون (169)}، وقتال المشركين الذين {ضربت عليهم الذلّة والمسكنة (112)}. وجاء هذا الحث عن طريق دروس عملية حقيقية تعلّمها المسلمون من غزوة أحد مع بعض العبر من غزوة بدر وقصص الأمم السابقة من أهل الكتاب.
003.5.2- أما باعتبار ما احتوته السورة من القصص والموضوعات، انظر أدناه “003.7.2- سياق السورة باعتبار القصص الموجودة فيها”، فبالإمكان تقسيمها إلى أربع مجموعات من الآيات، كلّها في التعريف والدلالة على ما جاء في المقدّمة، وهو وحدانية الله، وقيوميته، وعزته وحكمته، وتتكرر في كل مجموعة منها الموضوعات ولكن بطريقة مختلفة. أي أنّ موضوعات السورة تتكرر أربع مرّات في أربع مجموعات من الآيات، كما يلي:
003.5.2.1- المجموعة الأولى: خمس وعشرون (25) آية في مقدّمة السورة عرّفتنا بأن الله سبحانه وتعالى “لا إله إلا هو” الحي القيوم لا يخفى عليه شيء، العزيز الحكيم ذو انتقام. أنزل الكتاب هدى للناس، فالذين كفروا لهم عذاب شديد، والذين آمنوا هم أولوا الألباب، يدعون ربهم بدوام الهداية والرحمة.
إنزاله الكتب، ومنها القرآن، وأنه لا يقبل إلا الإسلام دينا، وإيجابه طاعته، وطاعة ومتابعة رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم. وهو لا يخفى عليه كفر الكافرين، ولا انحرافهم. وهو الذي قضى ابتلاء (امتحان) الخلق، ومحاسبتهم، وعقاب الكافرين، وإثابة المؤمنين، وتعذيب الكافرين، ونصر المؤمنين، دنيا وآخرة، وتزيين الدنيا لتقوم الحياة، وللابتلاء. وهو الذي زين شهوات الدنيا، وما أعده للمتقين في الآخرة خير منه، وعرفنا على ما أعده للكافرين من عذاب.
003.5.2.2- والمجموعة الثانية: مئة وثلاث وعشرون (123) آية عن قصص فئتين متناقضتين، الذين كفروا واستمتعوا بأهوائهم وشهواتهم واستغنوا بنعيم الدنيا عن الآخرة، والذين آمنوا وعرفوا ربهم فصبروا وصدقوا بالعمل للآخرة وقنتوا وأنفقوا واستغفروا ودعوا ربهم أن يقيهم عذاب النار ويدخلهم الجنة.
ثلاث مجموعات من القصص ذكر الله عز وجل لنا نماذج على اصطفائه لبعض عباده. كما بين غلو أهل الكتاب فيهم وشركهم، واتخاذهم آلهة، فحاورهم بكلامه ليدخلوا في الإسلام، وعبادة الله وحده لا شريك له، وأبطل دعاويهم الباطلة، وأقام عليهم الحجج، وأشهد عليهم الأنبياء. وبين أن الناس ثلاث فرق مؤمنون وكافرون ومنافقون، وذكر صفات وأخلاق كل منهم. وحدد العلاقات بين المؤمنين والكافرين، وحذر من كيد ومكر الكافرين والمنافقين، وحظر على المسلم أن يتابع الكافرين أو يوافقهم، في أقوال وتصرفات.
003.5.2.3- والمجموعة الثالثة: أربعون (40) آية فيها التعليق والدروس المستفادة من القصص السابق ذكرها، بأنّ الهدى: هو إيمان وعمل صالح معروف وهو إسلام الوجه لله، وعبادة الله، ومعاملات بالقسط موافقة للفطرة؛ والكفر: هو عمل أيضا لكنه فاسد منكر، هو تكذيب وإعراض عن الحق، وعبادة للهوى والشهوات، ومعاملات ظالمة مفسدة للفطرة.
وهي مواعظ فيها الأمر بالتطبيق العملي للهدى: بعبادة الله وحده لا شريك له، وذلك باتباع دينه الإسلام، والإيمان به، وطاعة رسوله، والعمل بكتابه، والإنفاق والجهاد في سبيله، والصبر على الابتلاء وعلى أذى المشركين والمنافقين، وعدم موالاتهم، والتبرؤ منهم ومن أفعالهم.
003.5.2.4- والمجموعة الرابعة: اثنتا عشرة (12) آية هي الخاتمة والخلاصة بأنّ الله هو مالك الملك يؤتيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، بيده العزة والخير والرزق، وهو على كلّ شيء قدير. فإذا كانت هذه الأمور كلّها بيد الله عزّ وجلّ فما الحاجة لموالاة الكافرين؟ بل الحذر، فالله لا يحب الكافرين، بل هو رؤوف بعباده، يحب الذين يتبعون رسوله والدين، فأطيعوا الله ورسوله يحببكم الله ويغفر لكم.
ونشير هنا إلى أن أكثر من ثمانون بالمائة (80%) من عدد آيات السورة هي عبارة عن قصص وأمثال. وكذلك أربعون (40) آية تتحدث عن دعاء المؤمنين وتعلقهم بالله، واستجابة الله لهم، يحبهم ويحبّونه؛ وست وثلاثون (36) آية عن بيان طريق الهدى؛ واثنان وثلاثون (32) آية في التعريف بأسماء الله تعالى وصفاته؛ واثنان وثلاثون (32) آية عن سنة الله في الابتلاء والتمحيص؛ وسبع وعشرون (27) آية عن إعراض الكافرين وأهل الكتاب؛ وست وعشرون (26) آية في الترغيب والترهيب والبشارة والنذارة.
نسأل الله أن يجعلنا من أحبابه المتقين الصابرين المرابطين المؤمنين العاملين إسلاماً وإيماناً وإحساناً ومحبّة.
003.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:
تنقسم السورة باعتبار ترتيب آياتها ومناسبة نزولها إلى أربعة مجموعات من الآيات، مقدمة في الآيات (1-32) وفيها: كل شيء يخص موضوعات السورة حول التطبيق العملي للهدى، فيها التعريف بأن الله واحد حي قيوم نزل الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه، واختلاف الناس بعد ما جاءتهم البينات إلى ثلاثة فئات فئة مصطفاة تحب الله وفئتين كافرتين اتبعتا حب الشهوات، وأن سبب الكفر هو اتباع الشهوات، وسبب الإيمان هو اتباع الهدى، وتختم المقدمة بأن المهتدي يحب الله بدليل أنه يتبع الهدى فيحبه الله، ومن تولّى فإن الله لا يحب الكافرين.
بعد هذه المقدمة التي عرّفت أن طريق الهدى هو معرفة وإيمان وعمل، فيه فتن وجهاد وتمحيص وابتلاء ومشاعر محبة وإعراض. ثم تأتي القصص بأحداثها ومواعظها (في ثلاثة مجموعات من الآيات) لتسهل فهم هذا الكلام النظري. وإن المختصر المفيد لهذه القصص هو: أن الله يبعث في كل أمة رسول منهم بالهدى ودين الحق، يتلو عليهم آياته ويعلّمهم الحكمة، ويطهرهم من الشرك والذنوب والأخلاق الفاسدة، ويزكيهم فينمّي فيهم حب الخير والإصلاح ومكارم الأخلاق، فيصطفي من عباده أفراداً وعائلات وجماعات وأمم، آمنت به وأطاعت رسوله يحبهم ويحبونه؛ ويُقصي آخرين أشركوا وكفروا وأفسدوا واتبعوا الشهوات، فيسلط عليهم عباده المؤمنين فيبتلي بعضهم ببعض ثم ينصر الله الحق ويزهق الباطل.
إن الإيمان والحب ليس كلمات تقال، بل طريق يجب أن يتبع، وحقيقة ذات تكاليف، ودعوة فيها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وأمانة ذات أعباء ومسئوليات والتزام، وجهد يحتاج إلى صبر ومصابرة واحتمال، وجهاد يحتاج إلى رباط وتقوى وبذل للمال والأنفس، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)}، وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)}، وقال: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (179)}، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}، وغيرها من الآيات، فالسورة سورة عمل وتطبيق، وقد ختمت بالأمر بالصبر والمصابرة والمرابطة.
لأجل تسهيل فهم هذه المعاني الواسعة العظيمة، ذكرت قصص (في ثلاثة مجموعات من الآيات) فيها ثلاثة معارك صعبة خاضها المسلمون الأوائل، الأولى معركة بالحجة والبيان، والثانية والثالثة معركتين بالقتال بالسلاح في بدر وفي أحد، وهو يعني أن طريق الهدى شائك وصعب، وفيه محن شديدة وابتلاءات وحروب مع الكفار، وأن الإيمان أمانة ومسئوليات وتطبيق عملي وليس كلام يقال. وقد نزلت القصص في السورة في ثلاثة مجموعات من الآيات: المجموعة الأولى في الآيات (33-63) بخصوص اصطفاء الله لبعض عباده في الأمم السابقة، لتكون حجة على أهل الكتاب، وقد نزلت قبل معركة بدر بمناسبة زيارة وفد نصارى نجران للمدينة؛ الثانية في الآيات (64-120) نزلت بعد معركة بدر التي انتصر فيها المسلمون وهم أذلّة؛ الثالثة في الآيات (121-200) التي نزلت بمناسبة وبعد معركة أحُد، وفيها اصطفاء الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتمحيص للمسلمين، وبيان صفات أولي الألباب.
003.6.1- المقدمة في الآيات (1-32): تتحدث عن أن الله نزل الكتاب بالحق ليهتدي به الناس، فمنهم من آمن ومنهم من كفر. وأنه سبحانه يبين الآيات التي تثبت أنه يؤيد بنصره من يشاء، ويعذب من يشاء، وأنه يعز من يشاء ويذل من يشاء. والسورة بعد ذلك في تفصيل وبيان ما جاء في المقدمة على شكل قصص ومواعظ.
003.6.1.1- افتتحت السورة بالتعريف بالذي أنزل الكتاب، هو الله الذي {لا إله إلا هو (2)}، له الحياة الكاملة، قام بنفسه فاستغنى عن جميع مخلوقاته. {لا يخفى عليه شيء (5)} فقام بتدبير الخلائق. ومن قيامه تعالى بعباده ورحمته بهم، نزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب، كما أنزل من قبل على الرسل الكتب {هدى للناس (4)} و {رحمة (8)}. {وأنزل الفرقان (4)} أي الحجج والبراهين والبينات، للتفريق بين الهدى والضلالة والإيمان والكفر. وتهديد لمن يكفر بآيات الله، واعتبارهم كفارا ولو كانوا من أهل الكتاب، وبيان لحال المؤمنين مع ربهم وموقفهم مما ينزل على رسله. {إن الدين عند الله الإسلام (19)}، فهو دين قديم، قدم الخلق واستخلاف الإنسان في الأرض، لأن فيه آيات الله وسننه الثابتة التي لا تتغيّر في أنه سينصر المؤمنين على أعدائهم الكفار: فقد أخذ آل فرعون من قبل بذنوبهم، وها هي السنّة تتكرر في يوم بدر {إن في ذلك لعبرة (13)}.
003.6.1.2- ويخبر تعالى أنه خلق الأرض وزينها لتكون الزاد و {متاع (14)} الطريق الموصل إلى ما عند الله من الثواب والعقاب، لا أن تكون مقصداً يشغل الإنسان عما خلق لأجله، فهي مملوكة لله يؤتيها وينزعها بمشيئته لا بحرص الإنسان. ومن رحمته أن بيّن للإنسان في القرآن ما يهديه إلى المقصد من وجوده على الأرض ويقيه من الزيغ. فمن لا يتبع هُداه ولا يؤمن بما جاء به يهلكه الله بذنوبه في الدنيا كما حصل مع الأمم السابقة {فأخذهم الله بذنوبهم (11)} قبل عقاب الآخرة في {جهنم (12)}. إن ميزان الله قائم على العدل فالواجب اتباع دينه ودعوة المشركين من أهل الكتاب إليه لأن من المفروض أن يكونوا أسرع الناس انقياداً، فإن تولوا وأعرضوا غروراً وافتراءاً فيجب عدم موالاتهم {فإن تولّوا فإن الله لا يحب الكافرين (32)}.
003.6.2- الآيات (33-63) وقد نزلت قبل معركة بدر بمناسبة زيارة وفد نصارى نجران للمدينة، وسؤالهم عن عيسى عليه السلام، وفيها: ذَكرَ الله عز وجل لنا نماذج على اصطفائه، ودلنا على غلو من غلا في بعض أهل الاصطفاء، بإعطائهم مالم يأذن به الله من الشرك والتأليه، كما يلي:
003.6.2.1- بيان اصطفاء آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، فئة مختارة مهتدية من الناس ليكونوا رسلاً وهداة للعالمين. يتبعه بيان ضلال الكفار والمشركين، وافترائهم على الله الكذب، ثم أمرهم باتباع الحق وتحذير المؤمنين من مكرهم، ومن الانجرار وتقليد باطلهم. يتبعه أمر المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بسلوك طريق المصطفين، لأن الله اصطفاهم ليكونوا كذلك، ونهاهم عن سلوك طريق الكفار، لأنهم سيقودونهم إلى الكفر.
003.6.2.2- وذكرت الآيات حقيقة قصة مريم وعيسى عليه السلام. فقد جادل فيها أهل الكتاب المسلمين في المدينة، في الفترة من بعد غزوة بدر إلى ما بعد غزوة أحد. فكشفت مدى انحرافهم عن دين الله، ثم دعتهم إلى المباهلة إن استمرّوا في الجدال، بأن لعنة الله على الكاذبين، فإن تولّوا فادعوهم إلى الإسلام وأشهدوهم بأنكم مسلمون تعبدون الله ولا تشركون به شيئاً.
003.6.3- الآيات (64-120) نزلت بعد معركة بدر التي انتصر فيها المسلمون وهم أذلّة، مما أثار أحقاد اليهود المجاورين للمسلمين في المدينة، فانطلقوا يكيدون ويتآمرون ويحاربون الإسلام بنشر الشبهات والشكوك وتكذيب ما يدعو إليه، فكان في قصة الاصطفاء حجّة دامغة على تحريف أهل الكتاب لكتابهم ودينهم ودحض شركهم وكذبهم بأنهم على ملّة إبراهيم، ودليل على أن دين الله واحد وهو الإسلام، وأن المسلمون يعبدون الله وحده لا شريك له ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
003.6.3.1- الآيات (64-92) دعوة لأهل الكتاب إلى عبودية الله وتوحيده، وعدم الشرك به، ومناقشة مواقفهم وأقوالهم. لمّا ادعى اليهود أن ابراهيم كان يهودياً، والنصارى أنه نصراني، وجادلوا في ذلك، وسعوا وبذلوا جهدهم بهذا ليضلّوا المسلمين ويشككوهم في دينهم، ردّ الله سبحانه وتعالى بأن الإسلام هو دين إبراهيم والمرسلين جميعاً.
003.6.3.2- الآيات (93-120) تأنيب أهل الكتاب على كفرهم بآيات الله وصدهم عن سبيله. والنهي عن السير في طريق الكفر، والأمر بتقوى الله، وبالاعتصام بالقرآن، وألا نفعل ما يخل بهذا الاعتصام، أو يضعفه، بل علينا أن نفعل ما يقويه. والدلالة على طريق الفلاح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير. والنهي عن اتخاذ بطانة من دوننا.
ولمّا افترى أهل الكتاب {على الله الكذب} فحرّموا وأحلّوا بما يخالف شرع الله الموجود في كتبهم وصدّوا {عن سبيل الله من آمن}، حذر تعالى المسلمين من طاعتهم وأمرهم باتباع {ملة إبراهيم حنيفاً}، وبيّن وظيفة أمة محمّد صلى الله عليه وسلم {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (110)}، وأمرهم بالاعتصام {بحبل الله جميعاً}.
003.6.4- الآيات (121-200) نزلت بمناسبة وبعد معركة أحُد: وفيها بيان اصطفاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ليكونوا هم الأعلون بإيمانهم، وليكونوا خير الأمم في اتباع الهدى وفي الدعوة إليه. يتبعه بيان ضلال أهل الكتاب وافترائهم على الله الكذب، وتحذير المؤمنين منهم. يتبعه بيان صفات أولي الألباب، ويأمر المؤمنين بالصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى لأن فيه الفلاح.
003.6.4.1- الآيات (121-179) وعد من الله بأن ينصر المؤمنين، كما نصرهم في بدر، إذا صبروا واتقوا. ومن صفات المتقين ترك الربا، وطاعة الله والرسول، والمسارعة إلى رضوان الله عز وجل وعدم الوهن والحزن في أي حال من الأحوال. بيان سنة الله في خلقه وعباده، وبيان بعض ما يتحقق به الإيمان من خلال وقعة أحد. الآيات تفصل في أخلاق المتقين، والكافرين، والمنافقين، وتحذر من أخلاق الكافرين، والمنافقين، وتحظر على المسلم أن يتابع الكافرين أو يوافقهم، في أقوال وتصرفات، وتحدد العلاقات بين أهل الإيمان وأهل الكفر.
دروس من غزوة أحد. فهي نقلة إلى معركة أخرى ليست باللسان والكيد والتدبير فقط، ولكنها كذلك قتال بالسلاح في سبيل الله دفاعاً عن الحق والدين. تقص علينا قصّة “غزوة أحد” وأحداثها والتعقيبات عليها في دروس للمسلمين بأسلوب عملي تجريبي، وقد نزلت الآيات بعد المعركة، فكانت مجالا للاستفادة وتعلّم الدروس من التجربة والممارسة العملية لتعاليم الإسلام على الأرض، ولتربية المسلمين على ضوء ما شاهدوه ومارسوه بأنفسهم، وواجهوه من مصاعب وحقائق وخبرات، وظهور نتائج حقيقيّة أثّرت في نفوسهم، وغيّرت مجرى حياتهم، بسبب تلك المعركة، وعلى ضوء ما كشفته من أخطاء، ومخالفة لتعاليم الدين بالجري خلف متاع الدنيا. وفرصة لتوجيه المسلمين إلى المضي في طريقهم، الذي جعلهم باتباعه خير أمّة أخرجت للناس، واحتمال تبعاته، والارتفاع إلى مستوى الأمانة التي ناطها الله بها، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوفاء بشكر نعمة الله عليها في اصطفائها لهذا الأمر العظيم.
ومن أهم الدروس أو العبر المستفادة من هذه المعركة بين الحق والباطل، والدّفاع عن الدين بالسلاح، أي بالجهاد والقتال (ومن قبلها المعركة باللسان، أي بالبيّنة والحجة) هي أن الحرب مستمرّة بين المؤمنين والكافرين ولا تنتهي، وقد ابتلى الله المؤمنين في هذه الحياة الدنيا بجهاد الكفار والمنافقين، ليختبر إيمان الذين آمنوا ويهلك الكافرين، وكأنه قدر مكتوب عليهم، وسنّة من سننه تعالى يبتلي بها المؤمنين ليميز الخبيث من الطيب، وليعلم الذين جاهدوا منهم ويعلم الصابرين، قال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)}. كذلك يزداد إيمان ويقين المؤمنين بصدق وعد الله حين نصرهم في بداية معركة أحد ثمّ تخليه عنهم ليبتليهم بذنب معصيتهم حينما أرادوا الدنيا، قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)}.
003.6.4.2- الآيات (180-189) كشف بعض قبائح اليهود وأهل الكتاب، ونكولهم عن مواثيقهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، تلك المواثيق التي كان قد عقدها معهم أول مقدمه إلى المدينة، والتنديد بكذبهم وأقوالهم الباطلة على الله وتحريفهم الحق، وما اجترحوه من الآثام مع المرسلين، وتكذيبهم الرسل، وقتلهم الأنبياء كذلك. ثم تحذير المسلمين من متابعتهم، وتثبيت القلوب المؤمنة على ما ينالها من الابتلاء في النفس والمال، وإيذاء أهل الكتاب والمشركين، وتهوين شأن أعدائهم.
003.6.4.3- الآيات (190-200) من صفات أولي الألباب أنهم حين يرون آيات الله في الكون، يتجهون إلى ربهم ورب هذا الكون بالدعاء الخاشع، واستجابة ربهم لهم بالمغفرة وحسن الثواب. مع التهوين من شأن الكفار وما ينالونه من متاع قليل في هذه الأرض، ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد وتختم السورة بدعوة من الله للذين آمنوا إلى الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى لعلهم يفلحون.
003.7 الشكل العام وسياق السورة:
003.7.1- سُميت سورة آل عمران بهذا الاسم لورود ذكر قصة تلك الأسرة الفاضلة آل عمران والد مريم أم عيسى عليه السلام وما تجلّى فيها من مظاهر القدرة الإلهية بولادة مريم البتول وابنها عيسى عليهما السلام. جميع المواضيع في السّورة مترابطة وفي انسجام كامل إطارها العام تشكّله قصّة مريم وآل عمران. اصطفاء الله، والتوجه إليه بالدعاء، واستجابة الدعاء، والابتلاء، وتأييد الله لمريم، ومعجزة ولادة عيسى، وإيمان الحواريين، وتكذيب بني إسرائيل، ثم تحريفهم للتوراة، إلى أن استبدلهم الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وجدالهم حول عائلة آل عمران، وتفنيد افتراءاتهم وكذبهم، هو الذي يرسم الخلفيّة الجدليّة والابتلاء والتمحيص للسّورة وأحداثها.
003.7.2- سياق السورة باعتبار القصص الموجودة فيها:
باعتبار القصص، احتوت السورة على أربعة مجموعات من الآيات، وفي كل مجموعة يتكرر مقصد السورة وموضوعاتها ولكن بطريقة مختلفة، أي أن الموضوعات تتكرر أربعة مرّات في أربعة مجموعات. المجموعة الأولى وفيها المقصد ومقدمة السورة، المجموعة الثانية هي القصص في حوالي 61.5% من عدد آيات السورة، والثالثة التعليق والدروس من القصص، والرابعة هي الخاتمة، كما يلي:
003.7.2.1- مقصد السورة ومقدمة احتوت كل موضوعاتها:
الآيات (1-32) احتوت هذه الآيات على كل موضوعات السورة. الأول: عرفتنا بالله سبحانه وتعالى بأنه هو الله لا إله إلى هو الحي القيوم لا يخفى عليه شيء العزيز الحكيم ذو انتقام، وأنه أنزل الكتاب هدى للناس، وأن الذين كفروا لهم عذاب شديد، وأن الذين آمنوا هم أولوا الألباب، يدعون ربهم بدوام الهداية والرحمة. الثاني: أن الذين كفروا استمتعوا بأهوائهم وشهواتهم واستغنوا بنعيم الدنيا عن الآخرة، والذين آمنوا عرفوا ربهم فصبروا وصدقوا بالعمل للآخرة وقنتوا وأنفقوا واستغفروا ودعوا ربهم أن يقيهم عذاب النار ويدخلهم الجنة. الثالث: أن الهدى هو عمل صالح معروف: وهو إسلام الوجه لله وعبادة لله ومعاملات بالقسط موافقة للفطرة وإيمان، والكفر عمل أيضاً لكنه فاسد منكر: أي إعراض عن الحق وعبادة الهوى والشهوات ومعاملات ظالمة مفسدة للفطرة وكفر وتكذيب. الرابع: الخلاصة وهي أن الله هو مالك الملك يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، بيده العزة والخير والرزق وهو على كل شيء قدير، فإذا كانت هذه الأمور كلها بيد الله عز وجل فلا حاجة لموالاة الكافرين، بل احذروا فالله لا يحب الكافرين، لكنه رؤوف بالعباد ويحب الذين يتبعون رسوله، فأطيعوا الله ورسوله يحببكم الله ويغفر لكم.
003.7.2.1.1- الآيات (1-6) تبدأ السورة بالتعريف بأنه الله لا إله إلا هو وحده الحي الذي لا يموت، القيوم أي القائم بأمورهم، خَلَقَهم ليفيض عليهم من نعيمه، ويسعدهم، لذلك هداهم بالكتاب، ففي الهدى سعادتهم وفلاحهم، وأنزل الفرقان فلا لبس ولا شبهة، فالذين كفروا لهم عذاب شديد، والله عزيز يغلب كل شيء ذو انتقام. ثم تكرر الآيات وتعرّف على المزيد من صفاته بأنه لا إله إلا هو العزيز في ملكه الذي لا يعجزه شيء وهو قادر على كل شيء، بدليل أنه يصوركم في الأرحام كيف يشاء، الحكيم في أفعاله وأقواله، يضع الأشياء في محلها، هداهم ليعرفوا كماله وحكمته وعدله، فإذا عرفوه أحبوه وعملوا في طاعته فيحبّهم. (الله: هو الاسم الأعظم الجامع لكل أسماء وصفات الكمال).
003.7.2.1.2- الآيات (7-13) اختلاف الناس ثلاثة فرق: كافرون لهم عذاب شديد، وفي قلوبهم زيغ، ومؤمنون مهتدون وهم أولو الألباب. المهتدون يدعون ربهم أن يهبهم من لدنه رحمة، وستبين القصص في السورة أنه يستجيب لهم ويصطفيهم برحمته ويؤيدهم بنصره. والكفار استغنوا بالأموال والأولاد وانشغلوا بالنعمة، وستبين القصص أن أموالهم وأولادهم لن تغني عنهم من الله شيئاً، ولهم عذاب شديد.
003.7.2.1.3- الآيات (14-20) أسباب الكفر هو حب الشهوات وانشغال الكفار والمنافقين بها عمّا سواها، وكأنهم خلقوا للتمتع بها. وأسباب الإيمان هو اتباع الهدى، وأن هذه الشهوات متاع مؤقت في الدنيا، فليصبروا وليطيعوا لأن الله عنده حسن المآب. وأن الله وحده، العزيز في ملكه الحكيم في فعله، قد خلق الخلق، وأقامه على العدل والقسط: وجعل للهدى ميزان هو دينه الإسلام، من أسلم فقد اهتدى، ومن تولّى وكفر فإن الله سريع الحساب {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}. الله خلق الأسباب، من شاء الفلاح اتخذ اسبابه وهو الهدى، ومن شاء الشقاء اتبع أسبابه وهو الشهوات.
003.7.2.1.4- الآيات (26-32) الله تعالى هو مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينـزعه ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير سبحانه، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويرزق من يشاء بغير حساب، فإذا كانت هذه الأمور كلها بيد الله عز وجل فلا تولوا الكافرين من دون المؤمنين، الله يعلم ما في صدوركم، أطيعوا الله ورسوله واتبعوه يحببكم الله ويغفر لكم.
003.7.2.2- نفس المواضيع السابقة تتكرر على شكل قصص: فتبين لنا بطريقة سهلة كم هي عظيمة نعمة الهدى على المؤمنين: بها يعرفوا أن لهم إله واحد لا إله إلا هو، حي لا ينام قيوم قائم بأمور عباده، عزيز يؤيدهم بنصره حكيم وضع الأشياء في مواضعها، شرعه العدل، قائم بالقسط. وتسهل هذه القصص فهم الموضوعات التي ذكرناها أعلاه، وهي أن الذين آمنوا بالله وأحبوه، يتوجهون إليه بالدعاء أن يديم عليهم الهداية والرحمة، وألا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم؛ ولأنهم عرفوا من أسماء وصفات ربهم أنه مجيب، فصبروا وصدقوا بالعمل للآخرة وقنتوا وأنفقوا واستغفروا واتقوا ودعوا ربهم أن يقيهم عذاب النار ويدخلهم الجنة، أما الذين كفروا فغرّتهم الحياة الدنيا واتبعوا شهواتهم. آيات القصص هي: (11، 13، 21-25، 33-84، 93-99، 103، 110-129، 137-143، 146-148، 151-156، 159، 165-168، 172-184، 187، 188) = 123 آية = 61.5 %
القصص في السورة تتحدث عن اصطفاء الله لأفراد وأمم وجماعات أطاعوا الله وحده لا شريك له وأحبوه فأحبهم، وعن إهلاك الله لأناس عصوا رسل الله وأشركوا وكفروا وصدوا عن سبيله فلعنهم الله والملائكة والناس أجمعين. وقد جاءت في مجموعتين من الآيات: الأولى تتحدث عن الحق قبل أن يحرّف الذي أنزله الله فيما مضى على جميع النبيين والمرسلين ابتداءاً من آدم عليه السلام وانتهاءاً بآخرهم عيسى عليه السلام، قبل مجيء النبي الخاتم، وذلك من أجل تفنيد دعاوى اليهود والنصارى الباطلة؛ والمجموعة الثانية تتحدث عن الحق الذي نزل على النبي الخاتم وكيف أن أمته كانت خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وعن تمحيص الله لهم وابتلائهم بقتال أهل الشرك، ونصر الله لهم وإعزاز دينه، كما يلي:
003.7.2.2.0- آيات القصص في الآيتين اللتين في مقدمة السورة وهي: الآية (11) تحدثت عن أخذ الله فرعون ومن قبله بذنوبهم، والآية (13) عن تأييد الله بنصره من يشاء، والآيات (21-25) عن الذين يكفرون ويقتلون النبيين حبطت أعمالهم.
003.7.2.2.1- الحديث عن دين الحق قبل أن يُحرّف الذي أنزله الله على جميع النبيين والمرسلين ابتداءاً من لدن آدم عليه السلام وانتهاءاً بآخرهم عيسى عليه السلام قبل نزول النبي الخاتم، وذلك من أجل تفنيد دعاوى اليهود والنصارى الباطلة على هذا الدين:
003.7.2.2.1.1- الآيات (33-63) قصة اصطفاء آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ودعوتهم إلى عبادة الله وحده، واستجابته تعالى لدعائهم وتأييدهم بنصره وبالمعجزات. والدرس المستفاد منه بأنه {مَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)}.
لأنهم أحبوا الله فأحبهم الله، نذروا أنفسهم وأولادهم لله فتقبلهم، ودعوا الله فاستجاب لهم، استعاذوا به فأعاذهم وكفلهم، وبشّرهم ورزقهم واصطفاهم وطهرهم، وعلّمهم الكتاب والحكمة وجعل فيهم الرسالة والنبوة والمعجزات؛ فالذين كذبوهم لهم عذاب شديد في الدنيا والآخرة، والذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم الله أجورهم.
003.7.2.2.1.2- هذا الجزء من القصة وكأنه جهاد بالحجة والبيان، يهدم كل أكاذيب وافتراءات أهل الكتاب على دين الله الإسلام: وفيه تأكيد على شرك أهل الكتاب واتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، وتفنيد ادعاءاتهم ومغالطاتهم بأنهم على ملة إبراهيم، وهم ليسوا كذلك، ومماطلتهم الرسول، وحربهم على دعوته لأنه من العرب وليس من بني إسرائيل، ثم إفحامهم بأن كتبهم بشرتهم بهذا الرسول المصدق لما معهم، وأنهم أُمروا أن يؤمنوا به وبالنبيين جميعاً وأن لا يفرّقوا بين أحد منهم.
الآيات (64-84) على النقيض مما فعله المصطفون، فقد ضلّ من جاء بعدهم وهم اليهود والنصارى وحرّفوا الرسالة التي نزلت على تلك الفئة المصطفاة من قبلهم التي كانت تعبد الله وحده لا شريك له، وأشركوا وكفروا، فاستبدلهم الله بالأمة الخاتمة يعبدون الله وحده ولا يشركون به شيئاً، على ملّة إبراهيم حنيفاً مسلماً. فاستكبر أهل الكتاب لأن النبي لم يأتي منهم، فألبسوا الحق بالباطل وصدّوا عن سبيل الله، وقالوا على الله الكذب وهم يعلمون، واشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً. فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يطيعهم، وأن يتبع دين الله الذي أسلم له من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً، دين الله الذي أنزله على إبراهيم وذرّيته والنبيون من ربهم لا يفرق بين أحد منهم.
الآيات (93-99) الإشارة إلى افتراء أهل الكتاب على الله الكذب، وعدم اتباعهم ملّة إبراهيم، وتقريعهم على شنيع فعلهم وظلمهم، فالله شهيد عليهم، وهم شهداء، وما الله بغافل عمّا يعملون.
003.7.2.2.2- تتحدث عن الحق الذي نزل على النبي الخاتم وكيف أن أمته كانت خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وعن تمحيص الله لهم وابتلائهم بقتال أهل الشرك، ونصر الله لهم وإعزاز دينه.
قال المفسرون بأن القصص التي في الآيات السابقة هي عن جهاد المشركين بالبيّنة والحجة، وأن هذه الآيات هي عن جهادهم بالقتال بالسيف، الآيات (103، 110-129، 137-143، 146-148، 151-156، 159، 165-168، 172-184، 187، 188):
فأمّة محمد صلى الله عليه وسلم كانت خير أمة أخرجت للناس بسبب أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، أكرمهم الله بعد أن كانوا أعداءاً فألف بينهم بالإسلام. أما المشركون فقد ضُربت عليهم الذلّة والمسكنة أينما ثقفوا وباؤوا بغضب من الله بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء بغير حق واعتدائهم. لقد نصر الله المسلمين على الكفار ببدر وهم قلّة، ثم نصرهم عليهم في معركة أحد، وفي نهاية معركة أُحُد ابتلي المسلمين ومحّصوا وأصابهم القرح بسبب معصيتهم الرسول، فصرفهم الله عنهم ليبتليهم ويميز الخبيث من الطيب، وليزداد المؤمنون إيماناً ويُعلم المنافقون. والقصص باختصار كما يلي:
الآية (103) اعتصموا بحبل الله الذي ألف بين قلوبكم، والآيات (110-129) كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وسينصركم الله على أهل الكتاب فلن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم؛ يفرحون بما يسوءكم فتبرؤوا منهم ولا تتخذوهم أولياء، قد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة وأمدكم بجنده فاتقوه، والآيات (137-143) سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، وتلك الأيام نداولها بين الناس، والآيات (146-148) وكم من نبي قاتل معه جموع كثيره فصبروا فنالوا ثواب الدنيا والآخرة، والآيات (151-156) قصة غزوة أحد التي نصر الله فيها المؤمنين ثم صرفهم وابتلاهم بعد ما أرادوا الدنيا، والآية (159) رحمة الرسول ولينه ولم يكن غليظ القلب، والآيات (165-168) المصائب حصلت بسبب أخطاء الناس، ولكن في ذلك خير وتمحيص ليعلم المؤمنين، ويعلم المنافقين والمكذبين، والآيات (172-184) الذين استجابوا لله والرسول انقلبوا بنعمة من الله ولهم أجر عظيم، والذين سارعوا واشتروا الكفر بالإيمان لن يضرّوا الله شيئاً ولهم عذاب أليم، وفي حصول هذه الطاعة وما يقابلها من المعصية يميز الله الخبيث من الطيب، ويعرف المؤمنين ويزدادوا إيماناً، ويعرف المنافقين والكافرين ويزدادوا إثماً، وينكشف كذب أهل الكتاب الذي قالوا إن الله فقير، ويشترطون لكي يؤمنوا قربان تأكله النار، وقد كانوا كذبوا رسلهم من قبل، والآيات (187، 188) نبذ أهل الكتاب ميثاقهم وشرائهم به ثمناً قليلاً.
003.7.2.3- الدروس والعبر المستفادة من القصص وهي: أن الله لن يقبل غير الإسلام ديناً، وأن الكافرين في العذاب. أمر المؤمنين بالموت على الإسلام وعدم طاعة أهل الكتاب. وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ولا يتفرّقوا ولا يختلفوا كالكفار. نهي المؤمنين عن أكل الربا، وأمرهم بالإنفاق، والمسارعة إلى مغفرة ربهم وجنة عرضها السماوات والأرض. وأن الرسول يموت كما مات الأنبياء. وأن الله مولاهم فلا يطيعوا الكافرين. والموت في سبيل الله خير مما يجمعون. والنصر من عند الله فليتوكلوا عليه ويتبعوا رضوانه وقد من عليهم بأن بعث فيهم الرسول يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون. وكل نفس ذائقة الموت ثم توفّى أجرها يوم القيامة. الآيات (85-92، 100-102، 104-109، 130-136، 144، 145، 149، 150، 157، 158، 160-164، 169-171، 185، 186) = 40 آية = 20%
003.7.2.4- الآيات (189-200) الخلاصة: وفيها إعادة تلخيص موضوعات السورة:
أن لله ملك كل شيء وهو على كل شيء قدير، وآياته في السماوات والأرض، لأولي الألباب يذكرون الله ويتفكرون في خلقه ويدعون يستعيذون به من النار، يؤمنون ويستغفرون ويؤمنون بالوعد ويسألون الجنة، فيستجيب الله لهم، لأنه لا يضيع عملهم وقد هاجروا وأوذوا في سبيله وقاتلوا وقتلوا ليكفرن عنهم سيئاتهم وليدخلنهم الجنة، أما الكافرين فمتاع قليل في الدنيا ثم هم خالدين في النار. وتختم بوصية للمؤمنين بأن يصبروا ويصابروا ويرابطوا ويتقوا الله لعلهم يفلحون.
003.7.2.5- بالإضافة إلى الإشارة إلى آيات القصص أعلاه، فيما يلي آيات فيها من أنباء الغيب عن قصص يوم القيامة وبعض آيات الله في خلقه وفي السماوات والأرض:
– آيات الله في خلق الإنسان وفي السماوات والأرض في الآيات: (5، 6، 26، 27، 29، 108، 109، 189-191) = 10 آيات.
– قصص الآخرة ويوم القيامة في الآيات: (9، 10، 12، 15، 30، 85-92، 104-107، 169-171، 185، 195-199) = 26 آية
003.7.3- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:
كنا قد ذكرنا في المقدمة بأن الإشارة هنا إلى عدد آيات القصص عند إحصائها ضمن سياقها قد يختلف قليلاً عن العدد الذي ذكرناه أعلاه، والسبب هو وجود بعض الآيات المختلفة في السياق الواحد، أو أن الآية قد تحتوي على أكثر من موضوع في نفس الوقت فتصنف هنا أو هناك. فالقصص لا تقتصر على بيان أحداث وتجارب مجرّدة عما حولها، فأبقيناها في سياقها الذي قد يتضمن أيضاً قصص يوم القيامة وبيان نعم الله وآياته في السماوات والأرض أو في غيرها من المخلوقات، وكذلك بعض الصفات والأوامر والنواهي أو غيرها من الأشياء المذكورة ضمن السياق.
003.7.3.1- آيات القصص: (11-13، 19-25، 33-129، 137-188، 199) = 160 آية = 80 %.
003.7.3.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (195-198) = 4 آيات.
003.7.3.3- آيات الله في السماوات والأرض في الآيات: (2-6، 26، 27، 29، 189-191) = 11 آية.
003.7.4- سياق السورة في بيان طريق الهدى بأنه طريق عمل وابتلاء واصطفاء:
طريق الهدى الذي بينه الله في كتابه، هو طريق عمل صالح، وهو طريق سعادة للمؤمنين، يبدأ بالمعرفة ثم الحب ثم الاتباع والرقي ثم الاصفاء للفلاح والفوز؛ أما الكافرين فقد خسروا وهلكوا لأنهم تولّوا واستبدلوا الجهل بالمعرفة، واتبعوا العمى على الهدى. ينزل الله كتبه على رسله {هدى للناس (4)}، ويصطفي من الناس أمم وأفراد ليكونوا أئمة للهدى، ومثالاً للطاعة، وامتثال أوامر الله، ويهدون بأمره ووحيه.
003.7.4.1- قصّة اصطفاء آل عمران، ممثلة بامرأة عمران وابنتها مريم وابنها عيسى، وكذلك زكريا الذي تكفل مريم وابنه يحيى، وقد اصطفى سبحانه من قبلهم آدم ونوح وآل إبراهيم، هي قصص حقيقية أوردتها السورة لبيان أن الله وحده المتصرف في الكون، {إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم (62)}، يصطفى من يشاء، ويجعل رسالته حيث يشاء، ويختار أمم وأفراد مطيعة متبعة لدينه الإسلام، لتكون دليلاً (أئمة) على الهدى، وفرقاناً يعرف بهم الفرق بين المؤمنون الذين يسارعون في الخيرات ويدعون ربهم رغباً ورهباً، والكفار المخالفين أوامره المستحقين عذابه. الكون كّله أسلم لله وحده، {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون (83)} فعلى الإنسان أن يسلم أيضاً (فهو لمصلحته). سياق السورة من أولها إلى آخرها يسير في هذا الاتجاه، وقصص الاصطفاء دليل على وحدانية الله وتفرده في التصرف في ملكه {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء (26)}، {تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحي (27)}، {إن الله اصطفى (33)}، {كنتم خير أمة أخرجت للناس (110)}، {ولله ملك السماوات والأرض (189)}. يصطفي أفراد ويصطفي أمم، يصطفي أنبياء ورسل، يهدي من يشاء وينزل كتبه على من يشاء {أنزل التوراة والإنجيل (3) من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان (4)}، {لا يخفى عليه شيء (5)}، هو الذي خلق وهو الذي صوّر، عنده الرضوان وعنده العذاب.
003.7.4.2- لقد اصطفى الأنبياء ليهدي بهم الناس، وقد كانوا أئمة للهدى {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين (73)} الأنبياء، {كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين (90)} الأنبياء. واصطفى من الأنبياء محمّد صلى الله عليه وسلم، وأخذ العهد على الأنبياء أن يؤمنوا به وينصروه {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه (81)}. واصطفى على سائر الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم {كنتم خير أمة أخرجت للناس (110)}، أخرجها الله بدون سابق عمل عملوه يستحق، وجعلها خير أمة بعد أن درّبها على الإيمان، وعلى عمل الأنبياء المذكورة هنا في الآيات أعلاه من سورة الأنبياء، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتسارع في الخيرات {يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات (114)}.
003.7.4.3- إن الله اصطفى آل عمران وأكرمهم كما بينت السورة عظيم أعمالهم، واصطفى كذلك خير أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أخرج هذه الأمة بدون سابق عمل عملته تستحق بسببه هذا الاختيار وأكرمها كما أكرمهم بعد أن درّبها على الإيمان ومحّص هذا الإيمان في غزوة بدر وفي معركة أحد {وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)}، {وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)}، { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)}. لا إله فعل هذا غير الله {ما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم (62)}}، يصطفي أفراد ويصطفي أمم. من صفات الأمة التي أخرجها، بالإضافة إلى قيامهم بعمل الأنبياء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أنهم {يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار (191)}… إلى آخر السورة. وقد ظلّ سبحانه يمحص هذه الأمة ويكرمها، وسيبقى كذلك إلى قيام الساعة: فأما إكرامه لهم في السورة فمنها أن ألف بين قلوبهم، وعفا عنهم، ونصرهم وهم أذلة وبشرهم ومنّ عليهم، صدقهم وعده إذ يحسونهم بإذنه، وجعلهم الأعلون، وألقى الرعب في قلوب أعدائهم، ولم يضرهم كيدهم شيئاً، فرحين بما آتاهم الله من فضله، إلخ كما في السورة. ومن خذلانه لأعدائهم من الكفار {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)}، {أُولَـئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (22)}، {أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)}، {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)} إلخ.
003.7.5- سياق السورة باعتبار موضوعات آياتها:
هذه السورة هي التطبيق العملي للهدى، تبدأ بالتعريف بأن الله حي يراقب الناس، وبحكمته أنزل عليهم الهدى، ليرى ما هم فاعلون، فهو لا يخفى عليه شيء، فيعاقب الكافرين ويكافئ المؤمنين. ثم تذكر القصص والأمثلة الحقيقية التي تسهل فهم طريق الهدى، وسرد الأمثلة عن تجارب وابتلاءات وممارسات وأعمال حقيقية، طهّرت المؤمنين من الشرك والفساد ونمّت فيهم حب الخير والحق والعدل والرحمة، وبقي الكفار وأهل الكتاب في شركهم وحبهم للدنيا وحربهم للدين ينحدرون في الغي الضلال حتى أهلكهم الله. فالهدى أعمال وليست فقط أقوال، والإيمان يزداد بالممارسة والتدريب العملي وبرؤية نتائج الأعمال على الأرض وليس بالأماني ولا بترديد الكلام.
الموضوعات التي اخترناها هنا هي التي تسهل فهم مقصود السورة وليست كلّ شيء، وهي سبعة موضوعات: الأول مقصدها، والثاني تعريف الله تعالى بنفسه، والثالث تعريف الهدى بأنه الإسلام والإيمان، والرابع التدريب على الإيمان بالدعاء، والخامس التدريب على الإيمان بالابتلاء، السادس الترغيب والترهيب، والسابع إعراض الكافرين وأهل الكتاب، كما يلي:
003.7.5.1- (مقصد السورة) تعريف الله تعالى على نفسه بأنه حيّ قيوم، وأن الناس باعتبار الهدى ينقسمون إلى ثلاث فئات: الآيات (1-13) = 13 آية
003.7.5.1.1- الآيات (1-6) بعد أن يبدأ سبحانه بالتعريف على نفسه أنه {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)} ثم أنه نزّل على رسوله الكتاب بالحق هدى للناس وإن الذين كفروا لهم عذاب شديد {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)}، إنه لا يخفى عليه شيء، ويصوركم كيف يشاء، أي: ذكر وأنثى، وحسن وقبيح، وشقي وسعيد، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)}.
تُبيّن بأن الناس باعتبار الهدى سينقسمون إلى ثلاثة أقسام: فريق مؤمنون أطاعوا فساروا على طريق الهدى فتطهروا من الذنوب فازداد إيمانهم ففازوا، وفريق آخر كفروا فتمادوا في الفساد فخسروا، أما الفريق الثالث ففي قلوبهم زيغ يتبعون الفتن والمتشابهات فضلّوا وخسروا، كما يلي:
003.7.5.1.1.1- المنافقون: في قلوبهم زيغ، ويتبعون المتشابهات ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
003.7.5.1.1.2- الكافرون: استغنوا بأموالهم وأولادهم، كدأب آل فرعون والذين من قبلهم.
003.7.5.1.1.3- المؤمنون: الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا، يدعون ربهم، يطهرون أنفسهم من المفاسد وينمونها بفعل الخيرات وزيادة الإيمان بطاعة الله والقتال في سبيل الله.
003.7.5.1.2- الآيات (7-13) وبعد أن بينت الآيات أن الناس ثلاثة فئات: منافقون في قلوبهم زيغ، وكافرون كآل فرعون والذين من قبلهم. ومؤمنون وهم أولو الألباب الذين يدْعُون ربهم تثبيت الهدى والرحمة، وأشارت إلى القصة في معركة بدر التي ستأتي لاحقاً عن الفئتين اللتين التقتا، لتكون آية وعبرة عن تأييد الله المؤمنين ونصره لهم على الكافرين.
003.7.5.2- تعريف الله تعالى على نفسه بأسمائه وصفاته، وبإرساله الرسل بالآيات والمعجزات، وآياته في الكون كما يلي: الآيات (1-6، 18، 26، 27، 33، 34، 44-50، 58-60، 62، 74، 76، 108، 109، 129، 164، 183، 184، 189، 190). = 32 آية.
003.7.5.2.1- يعرّف تعالى على نفسه بأنه حيّ قيوم هو الذي أرسل الرسل بالهدى والحق وهو عزيز حكيم ذو انتقام، كما ذكر في بداية السورة وغيرها من الآيات، وهي (1-6، 18، 26، 27، 33، 34، 62، 74، 76، 129، 189).
003.7.5.2.2- إرسال الرسل بالآيات والمعجزات الخارقة للعادة التي كانت تحصل في الأمم السابقة كولادة عيسى عليه السلام من غير أب وكلامه في المهد وإحياء الموتى والطير والبشارة بخاتم النبيين. ومعجزة القرآن وما فيه من الهدى والأنباء الحكمة والزكاة للمؤمنين التي تثبت صحتها مع مرور الأيام: الآيات (44-50، 58-60، 164، 183، 184).
003.7.5.2.3- آيات الله في الكون وفي خلق السماوات والأرض. الآيات (108، 109، 190).
003.7.5.3- التعريف بأن الهدى هو الدين وهو الإسلام وهو اتباع الرسول وهو الإيمان ومحبة الله، كما يلي:
003.7.5.3.1- الهدى هو من الله لا إله إلا هو الحي القيوم العزيز الحكيم، ومن يكفر بالهدى فله عذاب شديد من الله العزيز ذو انتقام. (وهو مقصد السورة في الآيات (1-6).
003.7.5.3.2- الهدى نزله الله على رسوله وهو الكتاب والحكمة، وهو نعمة عظيمة يمن الله به على المؤمنين، لأنه يطهرهم من الشرك والفساد ويهديهم إلى التوحيد والصلاح ومكارم الأخلاق كما في الآية (164).
003.7.5.3.3- إنّ الدين عند الله هو الإسلام، ومن أسلم وجهه لله فقد اهتدى.
003.7.5.3.4- وأن الدين هو الإسلام الذي أسلم له من السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون.
003.7.5.3.5- الإسلام هو عبادة الله وحده لا شريك له، وبالإسلام يصطفي الله من عباده من يشاء.
003.7.5.3.6- الإسلام هو دين الفطرة الحنيفة دين أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ودين كل الأنبياء والمرسلين وهو عبادة الله وحده لا شريك له.
003.7.5.3.7- الهدى هو محبّة الله، باتباع هديه على طريق رسوله، ومن يطع رسول الله يحببه الله.
003.7.5.3.8- المهتدي هو خير الناس، لأنه يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويؤمن بالله، وهي أكثر سورة تكررت فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثلاث مرات.
003.7.5.3.9- الهدى هو التبرؤ من أربعة أشياء: الشرك، أي دين آخر غير دين الإسلام، واتباع الهوى (الشهوات)، وطاعة الشيطان.
003.7.5.3.10- المهتدون هم المتقون: الذين لا يأكلون الربا والذين ينفقون في السرّاء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والمستغفرون.
003.7.5.3.11- المهتدون هم الصابرون والمصابرون والمرابطون والمتقون: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}.
والآيات التي تشير إلى هذا التعريف تملأ السورة من أولها إلى آخرها وهذه بعضها: الآيات (19، 20، 31، 32، 51-53، 64، 67، 68، 79-86، 92، 93، 95-97، 101، 102، 104، 130-135، 138، 149، 150، 200) = 36 آية.
003.7.5.4- الدعاء واستجابة الله للدعاء: هو من الوسائل التي ذكرتها السورة والتي فيها تدريب على الإيمان بالتجربة والممارسة، بأن يدعو المسلم ربه كما دعا زكريا أن يرزقه الله الذريّة فاستجاب له رغم أن امرأته عاقر، وكما استجاب لهم بالنصر في بدر، فنصرهم وهم أذلة وهزم أعدائهم، وغيرها من الأدعية التي ذكرتها السورة كدعاء المؤمنين في الآية {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)}. وباستجابة الله لدعاء المؤمنين يزداد إيمانهم ويقينهم بصدق وعده ووعيده فيتقوه ويعملوا الصالحات التي أمرهم بها ويجتنبوا السيئات التي نهاهم عنها فيفوزوا برضاه وتوفيقه في الدنيا وجنته في الآخرة.
إن مالا يقل عن خُمس آيات السورة تتحدث عن دعاء المؤمنين وتعلقهم بالله واستجابة الله لهم، يحبهم ويحبونه. والآيات التالية فيها ذكر استجابة الله لدعاء المؤمنين، وتدريبهم على الإيمان بالدعاء واستجابة الدعاء؛ وفيها نصرهم لله ونصر الله لهم؛ فاصطفى من الأفراد آدم ونوحاً ومن الجماعات آل إبراهيم وآل عمران، ومن الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير أمة أخرجت للناس {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (110)}.
الآيات: (16، 17، 35-43، 55، 103، 110، 113-115، 121-128، 139، 146-148، 159، 160، 173-175، 191-195، 199) = 40 آية.
003.7.5.5- سنة الله في الابتلاء والتمحيص لأجل اصطفاء المؤمنين وتزكيتهم:
إن الابتلاء نعمة من نعم الله لأنها تعرف المؤمنين بالمنعم وهو الله تعالى. إذ يبتلي الله الناس بالنعمة ليرى ما هم فاعلون، ثم يكافئهم بأن يعطيهم النعمة أو يقبضها عنهم، تبعاً لاستخدام النعمة ومتاع الدنيا من النساء البنين والأموال في الخير والإعمار أو الفساد. كما أنه سبحانه وتعالى يبتليهم ليمحص صبرهم ومصابرتهم وتوكلهم عليه وحده، لأجل أن يطهرهم من الشرك وحب الشهوات فيعلموا أن لا إله إلا الله، وينمي فيهم حب الخير والحق والعدل والرحمة، فالابتلاء نعمة فيها زكاتهم وارتقاءهم.
خلق الله الإنسان ليسعد بمعرفة الله وبنعمة الله، وكلما عرف الله أكثر كلما أحب الله أكثر. وكلما أطاع الله أكثر كلما أحبه الله أكثر: فسعادة الإنسان تكبر معه بالمعرفة، فكلما عرف الله بأسمائه وصفاته أكثر كلما ازدادت سعادته بالعلم والمعرفة أكثر؛ وسعادته أيضاً بالتجربة واتباع الهدى، الذي هو الإسلام يأمر بالعمل الصالح وينهى عن الفساد، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وغيرها من الأوامر والنواهي التي يتحقق بها مصلحة وسعادة الإنسان، فيزداد إيمانه واتباعه للإسلام، ويزداد حبه لله لأن الله هداه، وفي المقابل يزداد حب الله له بسبب اتباعه وطاعته؛ فقد خلق الإنسان ليتعلم ويتطور وينمو ويسعد بمعرفة صفات الله وكلما عرف وأطاع أكثر سعد أكثر. ونقيض العلم والهدى هو الجهل والضلال، فالذي لا يهتدي فسوف يشقي ويهلك في الدنيا ويعذب في الآخرة، وكل هذا نجده في الآيات التالية:
الآيات (14، 28، 61، 100، 118-120، 140-145، 152-156، 165-168، 176، 178-182، 186-188، 196) = 32 آية.
003.7.5.6- الترغيب والترهيب، والبشارة بالفوز والنعيم والنذارة من العذاب الشديد:
الترغيب باتباع الهدى وأن فيه النصر في الدنيا، والبشارة بالفوز في الآخرة بدخول جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله؛ والترهيب من أن الكفر يؤدي إلى العذاب الشديد في الدنيا، والنذارة بالخسران في الآخرة هم في النار خالدين لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون، ولن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئاً. نجده في الآيات: (15، 29، 30، 56، 57، 88، 89، 91، 105-107، 116، 136، 137، 157، 158، 161-163، 169-172، 185، 197، 198) = 26 آية.
003.7.5.7- إعراض الكافرين وأهل الكتاب: بعد أن هداهم الله فلم يهتدوا، ودعاهم فلم يستجيبوا، ومكروا فأحبط الله مكرهم وإفسادهم فلم يرتدعوا، فأصرّوا على الكفر واتبعوا شهواتهم واستخدموا النعمة ومتاع الدنيا من النساء البنين والأموال في الفساد بدلاً من الخير والإعمار، فعذبهم الله بها في الدنيا وأحبط أعمالهم وأهلكهم ولهم في الآخرة عذاب النار جزاء أعمالهم. نجده في الآيات (21-25، 54، 63، 65، 66، 69-73، 75، 77، 78، 87، 90، 94، 98، 99، 111، 112، 117، 151، 177) = 27 آية.
003.7.5.8- أنا حاولت أن اصنف آيات السورة على العناوين أعلاه تقريبياً، لكي يسهل فهم موضوعات السورة، ولكنه تصنيف غير دقيق لأن الكثير من الآيات تحتوي أكثر من موضوع في الآية الواحدة، ويمكن تصنيفها في أكثر من مكان، كالآية رقم (7) مثلاً فهي تتحدث عن صفة الله وعن الكتاب وعن الرسول وعن المؤمنين والمنافقين والآيات المحكمات والمتشابهات والفتنه والتأويل والراسخون والتذكرة وأولو الألباب؛ وكذلك نجد موضوع واحد في عدّة آيات كعلم الله وأنه لا يخفى عليه شيء في الآيات (5، 6، 7)؛ أو يأتي موضوع في آية وتؤيده قصّة في آية أخرى كأخذ الكافرين في الآيات (10، 11)، وهكذا. ولأن هذه السورة تطرقت للتطبيق العملي للإسلام فتكاد تكون معظم آياتها على صورة قصص، متداخلة مع المواعظ والدروس والعظات، وأحياناً كثيرة يصعب فصلها عن بعضها.
003.7.6- موضوعات أخرى مهمة، وهي الإنفاق والقتال في سبيل الله:
003.7.6.1- ومن المواضيع الهامّة في السورة موضوع المال والإنفاق، كما يلي: 18 آية
003.7.6.1.1- الله تعالى يبين بأنه هو مالك الملك وأنه بيده الرزق والخير يرزق من يشاء بغير حساب، وأنه جعل المال والشهوات متاع مؤقت في الدنيا. الآيات (14، 26، 27، 37).
003.7.6.1.2 يأمر تعالى المؤمنين بالإنفاق مما يحبون، وأنه من البر، ويثني على المؤمنين لأنهم ينفقون، وأن المال هو ابتلاء من الله ليرى صبرهم وتقواهم وما هم فاعلون. الآيات (17، 92، 134، 186).
003.7.6.1.3- استخدم الكفار نعمة المال في حربهم لله وصدهم عن سبيله، ويشترون بعهد الله وكتابه وأيمانهم ثماً قليلاً، ويبخلون بإنفاقه، ويأكلون الربا أضعافاً، وفي الآخرة لن تنفعهم هذه الأموال ولن تغني عنهم من عذاب الله شيئا. الآيات (10، 75، 77، 91، 116، 117، 130، 180، 181، 187).
003.7.6.2- ومن أهم موضوعات السورة هي الحرب التي لا تنتهي بين المؤمنين والكافرين:
وقد أسهبت في ذكر تفاصيلها أكثر من أي موضوع آخر، فاستخدمتها وسيلة تشدّ الانتباه، إذ يعيش من خلالها القارئ بين فريقان متحاربان يتعلّم من كليهما أساليب الكفار في نشر الفساد ومحاربة الإيمان، وأساليب المؤمنين في نشر الخير وجهادهم للقضاء على الكفر، ثم ينظر أيهما يكون الفائز وأيهما الخاسر، في سنن الله الثابتة التي لا تتغير.
وكما بينا أعلاه في التفاصيل عن السورة وفي القصص، ذكرت السورة جهاد المشركين باللسان أي بالبيّنة والحجة، وبالسنان أي جهادهم بالقتال بالسيف، وهي الحرب المستمرّة ولا تنتهي بين المؤمنين والكافرين. ولن نكرره هنا فقد سبق بيانه بالتفصيل، ولكن نشير إليه، لأن السورة من أولها إلى آخرها اعتمدت هذا الأسلوب، تسرد الأحداث ثم تعقب عليها بالعبر والدروس المستفادة، وقد تداخلت القصص والعبر بأسلوب شيق يشد الانتباه، ومعجز يصعب فصله، يعيش فيه القارئ الأحداث وكأنه جزء منها فإذا سمع الموعظة استوعبها وعلم مقصدها كأسهل وأوضح وأحسن ما يكون.
وقد ابتلى الله المؤمنين بجهاد الكفار والمنافقين، فكانوا أهلاً له، فالقتال في حياة المؤمنين شيء لا يمكن تجنبه ولا إنكاره، وفي المعارك الثلاثة كان المسلمون يدافعون عن دينهم وعن أنفسهم، وسوف نرى في السور القادمة أن هذه سنة من سنن الله يبتلي بها المؤمنين ليميز الخبيث من الطيب، وليعلم الذين جاهدوا منهم ويعلم الصابرين. وكما رأينا فالكفار يكرهون الحق ولا يطيقونه، لأنهم أعمتهم الدنيا، ويريدون أن يبطلوه بأيديهم وبأفواههم، فيقتلون الأنبياء بغير الحق ويحاربون دين الله، ولن يرضوا به {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ (120)} البقرة، لكن ينصره الله بالمؤمنين.
003.7.6.3- وحول موضوع الإنفاق والقتال في سبيل الله انظر في تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.2.5- الإنفاق والقتال في سبيل الله.
003.7.7- السورة مقترنة بسورة البقرة التي استخدمت التجريب وسيلة للوصول إلى النتيجة التربوية المرجوّة، إذ سلطت الأضواء على اليهود المغضوب عليهم، وهي مكملة لها وكان الدرس فيها مأخوذ عن اليهود وقدراتهم على تحمل الابتلاء ليستفيد منه المؤمنون الباحثين عن رحمة ربهم، فلا يفعلوا فعلهم. أدارت سورة آل عمران وجهها نحو المؤمنين لتبين كيف أن الله سبحانه صدق في وعده بنصر المؤمنين، وصار المؤمنون هنا هم موضع الدرس، ليزداد المؤمنون إيماناً، ليعتبر الكفار والمنافقون بأن لا نجاة لهم إلا أن ينضموا إلى فئة المؤمنين. والحقيقة أن السورة، ومن مظاهر إعجاز الخطاب فيها، موجهة إلى الفئات الثلاثة التي بينتهم سورة البقرة المؤمنون والكافرون والمنافقون، وكل فئة من هذه الفئات ترى أن السورة موجهة لها بالذات تحاورها وتبين لها طريق الهدى ونتائج أفعالها في الدنيا وفي الآخرة فيما لو استمرت على ما هي عليه من الإيمان أو الكفر أو النفاق، أو اختارت الطريق الآخر المقابل.
هي سيف مسلط على المشركين تعرّي وتفضح افتراءاتهم وأن الله قيوم على عباده وتسلط المسلمين عليهم، وهي للمسلمين رحمة تريهم موجبات اصطفاء الله لهم وأنه ناصرهم وتحط من قدر أعداءهم وأنهم لن يؤمنوا مهما أتتهم من الآيات.
003.7.8- تناسب أوّل السورة مع آخرها: قال تعالى في أول السورة أنه ينزل الكتب {هُدًى لِلنَّاسِ}، ويذكر أهل الكتاب وجزاؤهم على كثرة جدالهم وكفرهم: آية (4) {إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد}، ثم قال في آخر السورة يبين عمل أولي الألباب وجزاؤهم بعد استفادوا بأن لا يعملوا عمل أهل الكتاب فآمنوا من فورهم ولم يجادلوا أو يكفروا: آية (193) {ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا} إلى أن قال {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل}. وقد ذكر من قبل في سورة البقرة امتثال الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه: آية (285) {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله}.
003.7.9- سياق السورة باعتبار ترتيب آياتها:
احتوت السورة باعتبار ترتيب آياتها على أربعة موضوعات رئيسية في أربعة مجموعات من الآيات هي: مقدّمة تخاطب الناس جميعاً، ثم اصطفاء آل عمران من ذريّة إبراهيم عليه السلام، ثم خطاب أهل الكتاب وإعراضهم عن الكتاب وعما بُشّروا به عن طريق أنبيائهم {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ (81)}، ثمّ اصطفاء أمة محمد صلّى الله عليه وسلم من ذرية إبراهيم أيضاً. وننوّه هنا إلى تناسب هذه المجموعات الأربعة من الآيات بعضها مع بعض، كما بيّناه أعلاه في الفصل: (003.7.2) حول سياق السورة باعتبار القصص الموجودة فيها: وأنه في كل مجموعة يتكرر مقصد السورة وموضوعاتها ولكن بطريقة مختلفة، أي أن الموضوعات تتكرر أربعة مرّات في أربعة مجموعات؛ ويمكننا كذلك الإشارة هنا إلى التناسب بين موضوعات المقدّمة وموضوعات السورة الأربعة كما يلي:
003.7.9.1- مقدّمة في الآيات (1-32) تبين أن الله أنزل الكتاب هدى للناس، فالمقصودون بخطاب الهدى هم الناس كافّة عربيهم وأعجميهم، وبلا تمييز بين مؤمن أو كافر أو أهل كتاب، وفي هذه المقدّمة أربعة موضوعات، وكل موضوعات المقدّمة جاء تفصيلها في مجموعة من مجموعات السورة الأربعة، كما يلي:
003.7.9.1.1- الموضوع الأوّل في الآيات (1-9) وهو أن الله تعالى أنزل الكتاب بالحق، وفيه: الهدى والفرقان والآيات، وفيه خبر جميع فئات الناس (وهم الذين كفروا فلهم عذاب شديد، والذين في قلوبهم زيغ فيبتغون الفتنة، والراسخون في العلم الذين آمنوا) ونبأ جمعهم في يوم الميعاد. وأن الله لا يخفى عليه شيء، وهو الذي صوّر الناس كيف يشاء، فاطلبوا منه أيها الراسخون في العلم الثبات على الحق والدين {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}؛ وقد جاء تفصيل هذا الموضوع في المجموعة الأولى وهي مقدّمة السورة، في الآيات (1-32) = 16%. كما هو مبيّن هنا؛ وكذلك يوجد المزيد من التفصيل حول الموضوع في باب المقصد وفي الفصول: (003.5.1 و 003.6.1) أعلاه، فلا نكرره.
003.7.9.1.2- الموضوع الثاني في الآيات (10-13، 23-25) يتحدث عن أفعال الذين كفروا، والذين أوتوا الكتاب: وأن الكافرون لن يغني عنهم من الله شيئاً في الدنيا وفي الآخرة هم وقود النار: ومثلهم كمثل آل فرعون أخذهم الله بذنوبهم، وقد رأوا آيته في الدنيا: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا (13)}، في إشارة إلى معركة بدر، وفيها خذلان الكافرين وتأييد الله للمؤمنين. والذين أوتوا الكتاب كذلك: تولّوا وهم معرضون عن كتاب الله، وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون.
وقد جاء تفصيل هذا الموضوع في المجموعة الثالثة من الآيات (64-120) = 28.5%، التي تحدثت عن أفعال الذين كفروا، وأهل الكتاب، وما ارتكبوه بحق كتاب الله ورسله، التي استحقوا بسببها أن يكونوا وقود النار: وتبدأ هذه المجموعة من الآيات بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّـهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} ثم تذهب بعيداً في وصف كل ما فعلوه مع أمة محمّد صلى الله عليه وسلم في زمن النبوّة: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ (65)}، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ (70) + (98)}، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ (71)}، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ (99)}، وكذلك فإن من أهل الكتاب: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ (75)}، {يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّـهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا (77)}، {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ (78)}، {كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ (86)}، وهكذا إلى أن تصل إلى الآية التي تأمر فيها أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم، بأن لا تفعلوا فعلهم بل اتبعوا ملّة إبراهيم حنيفاً في الآية (95)، وأن الله جعل أمّة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس بسبب أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله الآية (110)، ثم تكرر ما جاء في الآية (10) من المقدّمة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّـهِ شَيْئًا وَأُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)}، ثم سيأتي بعده في المجموعة الأخيرة نصر الله لأمّة محمد صلّى الله عليه وسلم وهم أذلّة في معركة بدر التي أشير إليها في الآية (13)، ومعركة أحد، في الآيات (121-200).
وقد ابتدأت السورة من الآية الرابعة، بذكر الناس (وتكررت 19 مرّة)، وبذكر الذين كفروا (تكررت 15 مرّة)، وظلّ يتكرر ذكرهما إلى آخر آيات السورة (في الآيتين 187 و 196)؛ أما الذين أوتوا الكتاب فلم يبدأ ذكرهم إلا في هذه المجموعة في الآية (64) وتكرر 12 مرّة، منها 11 مرّة تكررت في هذه المجموعة من الآيات؛ وابتدأ ذكر يا أيها الذين آمنوا في الآية (57) وتكررت 12 مرّة، إلى آخر السورة الآية (200).
انظر المزيد من التفصيل حول موضوع الآيات في الفصلين (003.5.2 و 003.6.3).
003.7.9.1.3- الموضوع الثالث في الآيات (14-22) فيه بيان أن الدنيا زيّنت لتكون متاع البقاء المؤقت على الأرض؛ لكن الآخرة خير، لأن المقصود من وجود الإنسان هو الخلود في الجنات للمتقين وأولوا العلم، الذين تتحدث عن صفاتهم الآيات (16-18)؛ الله تعالى وملائكته وأولو العلم شاهدون على عدل الله، والذين يكفرون ويقتلون الأنبياء حبطت أعمالهم في الدنيا، وفي الآخرة في النار خالدين.
وقد جاء تفصيل هذا الموضوع في الآيات (33-63) = 15.5% التي تتحدث عن اصطفاء آل عمران، من ذريّة إبراهيم عليه السلام، أي عن المتقين وأولوا العلم الذين اصطفاهم الله وذكرت صفاتهم في الآيات (16-18). انظر كذلك المزيد من التفصيل في: (المطلب 003.5.3.1 والفصل 003.6.2) أعلاه.
003.7.9.1.4- الموضوع الرابع في الآيات (26-32): وهو أن الله مالك الملك بيده الخير ويرزق من يشاء بغير حساب ويعلم ما تبدون وما تكتمون. والحق أن الله خلق الناس لكي يحبوه، وذلك بأن يطيعوه ورسوله، فيحبهم الله ويغفر لهم، فإن لم يفعلوا فإن الله لا يحب الكافرين. والناس فئتين: مؤمنين وكافرين، من يعمل خير يجده، ومن يعمل شر يود (في يوم الحساب) أن يكون بينه وبينه أمداً بعيداً.
وقد جاء تفصيل هذا الموضوع في الآيات (121-200) = 40%، حول اصطفاء أمة محمد صلى الله عليه وسلّم، وهم من ذرّية إبراهيم أيضاً. وكذلك المزيد من التفصيل في (المطلب 003.5.3.2 والفصل 003.6.4) أعلاه.
003.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:
003.8.1- تناسب سورة آل عمران مع سورتي الفاتحة والبقرة:
003.8.1.1- بعد أن بيّن {الرحمن الرحيم} في أوّل آيتين من سورة البقرة أنّ طريق الهداية موجود في ذلك الكتاب {الم (1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتّقين (2)}. أكّد هنا في سورة آل عمران أن مصدر {ذلك الكتاب (2)} هو {الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم (2)} فهو حيّ يهدي ويبين لمخلوقاته، لا يتركهم للحظة واحدة أو أقلّ من ذلك، قيّوم لم يخلقهم ويتركهم بل {لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء (5)}. لذلك أنزل الكتاب بالحق ليهديهم كما {أنزل التوراة والإنجيل (2) من قبل هدى للناس (3)}. وكما سبق وأن علّمنا سبحانه كيفيّة طلب الهداية {اهدنا الصراط المستقيم} في سورة الفاتحة، نتعلّم هنا أن نستجير برحمته فلا يذهبها بعد أن وهبها {ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهّاب (8)}. والسورة تبين بالأمثلة أفراد وجماعات اصطفاهم الله وكلّفهم تطبيق دينه {إن الدين عند الله الإسلام (19)} ليكونوا قدوة ودليلاً وأئمة يدعون إلى الهدى.
003.8.1.2- تبين السورة كيفيّة تطبيق دين الله الذي جاء تفصيله في سورة البقرة والمتمثل بالعبادة والطاعة والصبر على الابتلاء: فهي مليئة بصفات المكلفين سواء منهم المؤمنين أو الكافرين واستجابة كل فئة لرسالة السماء وردات أفعالهم. وفيها مزيد من التفصيل في أحكام العبادة والطاعة والجهاد والابتلاء، وغيرها. لقد كانت قصة آل عمران في الجزء الأول من السورة (نموذج) عن الاصطفاء والتكليف. وأثره على المصطفين المكلفين. والجزء الثاني عن اصطفاء الجيل الأول من أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم لتكون مثالاً (نموذجاً) حقيقياً وعملياً على تطبيق دين الله في الأرض، تهتدي به الأجيال اللاحقة والأمم الأخرى.
003.8.1.3- سورة آل عمران هي المكملة للدرس التاريخي الذي على المسلمين أن يتعلموه من قصّة أهل الكتاب التي ابتدأت في سورة البقرة بتحريفات باليهود وتممت في سورة آل عمران بضلال النصارى. ولأن تحريفات اليهود كانت في الشرائع والأحكام جاء جزء البقرة الأخير ليبين حقيقة شرع الله وأحكامه قبل تحريفها، وكذلك لأن النصارى ضلوا عن معرفة حقيقة نبيهم فجعلوه ابناً لله جاء الجزء الأول جدال بالحجة ليبين حقيقة نبيهم ويردهم عن ضلالاتهم، فبعد أن علموا ذلك ولم يهتدوا فصار لزاماً وعدلاً قتالهم، لهذا جزء آل عمران الأخير يبين أحكام القتال. كذلك بعد أن أعد الله تعالى المسلمين لخلافة الأرض بعرض الأحكام والتشريعات اللازمة في الصلاة والحج والصيام والزكاة والقتال وغيرها وبوضع قواعد الدولة الجديدة القائمة على الإيمان {لا إكراه في الدّين} في الجزء الثاني من سورة البقرة، جاءت أحكام الجهاد في الجزء الثاني من سورة آل عمران لتبين كيفيّة الحفاظ على هذه الأحكام. وبشكل عام فالسورة من أولها إلى مئة وعشرون (120) آية في مخاصمة النصارى ومحاججتهم وإبطال مذهبهم، ودعوتهم إلى الدخول في الدين الحق دين الإسلام، كما نزل صدر البقرة في محاجة اليهود.
003.8.1.4- سورة البقرة هي سورة التعليم والهدى (يقابله النسيان) والإيمان (يقابله الخطأ الناتج عن الجهل) لذلك ختمت بطلب المغفرة عن النسيان والخطأ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}. وسورة آل عمران سورة العمل لذلك ختمت بالأمر بالصبر والمرابطة والتقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}.
003.8.2- تناسب سورة آل عمران مع سورتي الفاتحة والبقرة قبلها، وسورتي النساء والمائدة بعدها:
003.8.2.1- في الفاتحة طلب الهداية إلى الصراط المستقيم، وفي البقرة بيان طريق الهدى والصراط المستقيم، وفي آل عمران بيان مرحلة العمل على طريق الهدى والاصطفاء والتمحيص وبناء الدولة، وفي النساء مرحلة التعامل المجتمع والحق والحقوق، وفي المائدة تبدأ بالأمر بالوفاء بالعقود وتختم ينفع الصادقين صدقهم فلم ينقضوا العقود.
003.8.2.2- البقرة بينت مقاومة أهل الكتاب وطول عنادهم وجدالهم؛ وآل عمران بينت الدين بعد استقراره واصطفاء الله للمؤمنين فكانوا خير أمة، ثم بيان بعض أخطائهم عندما أطاعوا الشيطان وشهواتهم، وحذرت من كفر أهل الكتاب وتقليدهم؛ والنساء تحدثت عن حقوق الناس فيما بينهم وحقوق العباد؛ والمائدة المحافظة على الحقوق والعهود والمواثيق، والحلال والحرام هو ما أحله الله وحرمه.
انظر أيضاً: (005.8.2) تناسب وتناسق سورة المائدة مع غيرها من السور.
003.8.3- تناسب آل عمران مع سور أخرى في القرآن:
تحدثت سورة آل عمران عن غزوة بدر وعن غزوة أُحد. لكن تفاصيل غزوة بدر جاءت في سورة الأنفال، وقال المفسرون: إذا أردت أن تعرف تفاصيل غزوة بدر فاقرأ سورة الأنفال، وإذا أردت أن تعرف تفاصيل عزوة أحد فاقرأ سورة آل عمران، وإذا أردت أن تعرف تفاصيل غزوة الأحزاب فاقرأ سورة الأحزاب، وإذا أردت أن تعرف ماذا جرى في صلح الحديبية وما أعقب ذلك من فتح مكة فاقرأ سورة الفتح، وإذا أردت أن تقرأ تفاصيل غزوة تبوك وما جرى من المنافقين فاقرأ سورة التوبة.
003.8.4- قال الإمام جلال الدين السيوطي: لما كانت هذه السورة قرينة سورة البقرة وكالمكملة لها افتتحت بتقرير ما افتتحت به تلك وصرح في منطوق مطلعها بما طوى في مفهوم تلك ومن وجوه المناسبات: أحدها: مراعاة القاعدة في شرح كل سورة لإجمال ما في السورة قبلها وذلك هنا في عدة مواضع منها: أول البقرة افتتح بوصف الكتاب بأنه لا ريب فيه وقال في آل عمران: {نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بينَ يديه}: وذاك بسط وإطناب لنفي الريب عنه. ومنها أنه ذكر في البقرة إنزال الكتاب مجملاً وقسمه هنا إلى آيات محكمات ومتشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله. ومنها أنه قال في البقرة: {واللَهُ يؤتي ملكه من يشاء} وقال هنا: {قُل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير} فزاد إطناباً وتفصيلاً. ومنها أنه حذر من الربا في البقرة ولم يزد على لفظ الربا إيجازاً وزاد هنا قول أضعافاً. ومنها أنه قال في البقرة: {وأَتموا الحج} وذلك إنما يدل على الوجوب إجمالاً وفصله هنا بقوله: {وللهِ على الناس حج البيت} وزاد: بيان شرط الوجوب بقوله: {ومَن كفرَ فإِن اللَهَ غنيٌ عَن العالمين}. ومنها أنه قال في البقرة في أهل الكتاب: {ثم توليتم إلا قليلاً منكم} فأجمل القليل وفصله هنا بقوله: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون}. ومنها أنه قال في البقرة: {قُل أَتحاجوننا في الله وهوَ رَبَنا وربُكُم ولنا أَعمالنا ولكُم أَعمالكم ونحن له مخلصون} فدل بها على تفضيل هذه الأمة على اليهود تعريضاً لا تصريحاً وكذلك قوله: {وكذلِكَ جعلناكُم أُمةٌ وسطاً} في تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم بلفظ فيه يسير إبهام وأتى في هذه بصريح البيان فقال: {كنتُم خيرَ أُمةٌ أُخرجَت للناس} فقوله: {كنتُم} أصرح في قدم ذلك من {جعلناكم} ثم وزاد وجه الخيرية بقوله: {تأمرونَ بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}. ومنها أنه قال في البقرة: {ولَا تأَكلوا أَموالكُم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام} وبسط الوعيد هنا بقوله: {إنَّ الذينَ يَشترونَ بعهدِ الله وأَيمانهم ثمناً قَليلاً أُولئكَ لا خلاقَ لهُم في الآخرة} وصدره بقوله: {ومِن أَهلِ الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إِليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل}. الوجه الثاني: أن بين هذه السورة وسورة البقرة اتحاداً وتلاحماً متأكداً لما تقدم من أن البقرة بمنزلة إزالة الشبهة: ولهذا تكرر هنا ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقيقة الكتاب: من إنزال الكتاب وتصديقه للكتب قبله والهدى إلى الصراط المستقيم وتكررت هنا آية: {قولوا آمنا بالله وما أَنزل} بكمالها. ولذلك أيضاً ذكر في هذه ما هو تال لما ذكر في تلك أو لازم في تلك أو لازم له فذكر هناك خلق الناس وذكر هنا تصويرهم في الأرحام وذكر هناك مبدأ خلق آدم وذكر هنا مبدأ خلق اولاده وألطف من ذلك: أنه افتتح البقرة بقصة آدم حيث خلقه من غير أب ولا أم وذكر في هذه نظيره في الخلق من غير أب وهو عيسى عليه السلام ولذلك ضرب له المثل بآدم واختصت البقرة بآدم لأنها أول السور وآدم أول في الوجود وسابق ولأنها الأصل وهذه كالفرع والتتمة لها فمختصة بالإعراب والبيان ولأنها خطاب لليهود الذين قالوا في مريم ما قالوا وأنكروا وجود ولد بلا أب ففوتحوا بقصة آدم لتثبيت في أذهانهم فلا تأتي قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشبهها من جنسها ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم في قوله: {كمثل آدم} الآية والمقيس عليه لا بد وأن يكون معلوماً لتتم الحجة بالقياس فكانت قصة آدم والسورة التي هي فيها جديرة بالتقدم. ومن وجوه تلازم السورتين: أنه قال في البقرة في صفة النار: {أُعِدت للكافرينَ} ولم يقل في الجنة: أعدت للمتقين مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معاً وقال ذلك في آخر آل عمران في قوله: {جنَةٌ عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} فكان السورتين بمنزلة سورة واحدة وبذلك يعرف أن تقديم آل عمران على النساء أنسب من تقديم النساء عليها. وأمر آخر استقرأته وهو: أنه إذا وردت سورتان بينهما تلازم واتحاد فإن السورة الثانية تكون خاتمتها مناسبة لفاتحة الأولى للدلالة على الاتحاد وفي السورة المستقلة عما بعدها يكون آخر السورة نفسها مناسب لأولها وآخر آل عمران مناسب لأول البقرة فإنها افتتحت بذكر المتقين وأنهم المفلحون وختمت آل عمران بقوله: {واتقوا الله لعلكم تفلحون} وافتتحت البقرة بقوله: {والذينَ يؤمنونَ بما أُنزلَ إِليكَ وما أُنزلَ من قبلك} وختمت آل عمران بقوله: {وإِنَ من أَهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم} فلله الحمد على ما ألهم. وقد ورد أنه لما نزلت: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} في سورة البقرة، قال اليهود: يا محمد افتقر ربك فسأل القرض عباده فنزل قوله في سورة آل عمران: {لقد سمِعَ الله قولَ الذينَ قالوا إِنَّ الله فقير ونحنُ أَغنياء}، ووقع في البقرة حكاية عن إبراهيم: {ربنَّا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك} ونزل في هذه: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أَنفُسَهُم يتلو عليهم} وذلك أَيضاً من تلازم السورتين.
وقال السيوطي أيضاً: وقد جاء (اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران) فكان افتتاح القرآن بهما نظير اختتامه بسورتي الفلق والناس المشتركتين في التسمية بالمعوذتين.
وقيل ختمت سورة البقرة على سؤال النصر: {وانصرنا على القوم الكافرين}، وفي مفتتح سورة آل عمران بيّن نصرتهم على الكفار باللسان والسنان.
003.8.5- وقال الإمام برهان الدين البقاعي عند تفسيره أول آيات آل عمران ما معناه: أنزل سبحانه وتعالى سورة البقرة على طولها في بيان أن الكتاب هدى للمتقين، وأوّل آل عمران في بيان وحدانية الله وأن الكتاب حق لمصادقته لما قبله من الكتب التي أنزلت {هدى للناس}.
003.8.6- وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير ما حاصله: إن اتصالها بسورة البقرة، والله سبحانه وتعالى أعلم، من جهات: إحداها ما تبين في صدر السورة مما هو إحالة على ما ضمّن في سورة البقرة بأسرها، ثانيها الإشارة في صدر السورة أيضاً إلى أن الصراط المستقيم قد تبين شأنه لمن تقدم في كتبهم، فإن هذا الكتاب جاء مصدقاً لما نزّل {نزّل عليك الكتاب بالحقّ مصدقاً لما بين يديه (3)}، فهو بيان لحال الكتاب الذي هو هدى للمتقين، ولما بين افتراق الأمم بحسب سورة البقرة السابقة إلى أصناف ثلاثة، وذكر من تعنت بني إسرائيل وتوقفهم ما تقدم، أخبر سبحانه وتعالى هنا في آل عمران أنه أنزل عليهم التوراة، وأنزل بعدها الإنجيل، وأن كل ذلك هدى لمن وفق، إعلاماً منه سبحانه وتعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن من تقدمهم قد بين لهم {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً (15)} الإسراء، والثالثة قصة عيسى عليه الصلاة والسلام ولهذا أشار قوله سبحانه وتعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم (59)}.
003.8.7- انظر سورة العصر (103.8.1). التي أوجزت فيها مضامين أربع سور: البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، باحتوائها على أربع صفات: الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر.
انظر كيف تتشابه سورة الحديد مع سورة آل عمران في مقصدهما الذي هو الحث على نصرة الله بإقامة شرعه وتنزيهه عن عظيم ضلالهم وسوء اجترائهم. (انظر تناسب سورة الحديد مع غيرها من السور (057.8.5)).
003.8.8- وقد وردت كلمة {الله} مكررة ثلاثون مرة في سورة الحديد بينما عدد آياتها تسع وعشرون آية، كذلك تكررت كلمة {الله} في سورة آل عمران مائتا مرّة وهو عدد مساوٍ لعدد آياتها. وسبب تكرار {الله} كما ذكر هناك أنه مقصود السورتين يستدعي حاجة الناس إلى حضور الله سبحانه بجميع صفاته، إذ أن هذا الاسم جامع لجميع صفاته الحسنى سبحانه وتعالى. وقد يكون هذا هو اسم الله الأعظم الذي ذكر في الحديثين المذكورين بمناسب نزول السورة أي أن إسم الله الأعظم: في سورة البقرة، وآل عمران، وطه. فقد تكرر اسم {الله} في سورة البقرة مائتان وثمانون مرّة وآياتها مائتان وست وثمانون آية، وفي آل عمران مائتا مرّة على عدد آياتها، كما ورد الاسم {الله} في سورة طه في ستة آيات ثلاث منها ذكرت أنه {الله لا إله إلا هو} وهي الآيات (8 و 14 و 98)، والآيات الثلاث الأخرى ذكرت أنه {لا تفتروا على الله كذباً (61)}، {والله خير وأبقى (73)}، {فتعالى الله الملك الحق (114)}. كذلك وردت {لا إله إلا هو} مكرره في آل عمران أربع مرات في الآيات (2 و 6 و 18).