العودة إلى فهرس القرآن: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر القرآن)


8.0 الباب الثامن: تناسب وتناسق السّور مع غيرها من السّور


ملاحظة 1: لقد تمّ تأليف هذه الكتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن، كما ذكرنا في المقدّمة والتمهيد على ثمانية أبواب، (انظر: 0.3- لقد أنشأنا هذا الكتاب على ثمانية أبواب).

ملاحظة 2: هذا الكتاب مكوّن من مقدّمة وخاتمة وجزأين متكاملين، كما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– الجزء الأول: اسمه “كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن” ويتناول القرآن كاملاً وبشكل عام. انظر الفهرس هنا
– الجزء الثاني: اسمه “كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن” ويتحدث عن كل سورة من سور القرآن منفردة وبنفس الأبواب الرئيسية الثمانية المشار إليها أعلاه. انظر الفهرس هنا
– الملخص والخاتمة: اضغط هنا


8.1- تمهيد: إنّ مقصد القرآن هو الهداية إلى الصّراط المستقيم الموصل إلى نعمة محبّة الله والسّعادة الخالدة في جنّات النّعيم، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيراً (20)} الإنسان، أعلى هذا النّعيم الذي يُنسي كل نعيمٍ آخر في الجنّة، هو النّظر إلى وجه ربّنا الكريم، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} القيامة، وقال: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ (26)} يونس، الحسنى هي الجنّة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم، وأهل الجنّة لا شغل لهم فيها إلا النّعيم، قال تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)} يس، فالعبادة والتّكاليف مكانها في الدنيا فقط، أما في الجنة فيلهمون التسبيح والتحميد، قال صلى الله عليه وسلم: “يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ، وَالتَّحْمِيدَ كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ” مسلم، كما يلي:

 

8.1.1- لقد خلق الله الإنسان، وخلق كلّ مخلوق سواه، ليُنعم عليه بنعمة إيجادِه وبقاءه، وعبادتِه وتسبيحِه، فتحمَدُهُ وتشكُرُهُ وتسبّحُهُ على نِعَمه كلُّ مخلوقاته، قال تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ (44)} الإسراء، فتزدادُ هذه المخلوقات بهذا الحمد والتّسبيح فضلاً من الله ورحمةً ونعمة، دون سابق عمل أو فضل فعلته إلى الله خالقها، الذي أوجدها بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً. الله سبحانه وتعالى لم يكن بحاجة لأحد قبل أن يخلُق، فهو الأحد الصّمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد، وهو ليس بحاجة لعبادة ولا لتسبيح أحد من خلقه، ولا بحاجة لأن يعذّب أحداً من خلقه، ولم يخلُق أبداً شيئاً ليعذّبه، سواءٌ كان حيّاً أو نباتاً أو جماداً، قال تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} النّساء، بل على النقيض من هذا، فقد قَضَى للنّاس، ولغيرهم من المخلوقات، بالنّعيم والسّعادة، والسّعادة بالنّسبة للإنسان هي عبادةُ الله، ومعرفة أسمائه عقلاً، وحبّه قلباً، والتّمتّع بنِعَمِه حسّاً وجسداً؛ وقد قدّر سبحانه لكلّ مخلوق مَقْدِرَاتِه وهداه لما يناسِبُه ويصلِحُه، قال تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} الأعلى. وقدّر لكل إنسان عملَه وأجلَه ورزقَه ولونه وقُدُراتَه وشقاوتَه وسعادتَه، وليس للعبد إلا ما قد قدّر وكتب الله له، كما في الحديث المتفق عليه: “يُكتب رزقَه، وأجلَه، وعمله، وشقي أو سعيد”، في هذه الدّنيا، وفي الآخرة كذلك، من اختلاف الدّرجات في الجنّة أو العذاب في النّار، قال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} النّساء، وقال: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)} التّوبة، وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)} الحديد.

 

8.1.2- إنّ الإنسان اختار لنفسه حمل الأمانة حين عرضها الله سبحانه وتعالى على مخلوقاته، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} الأحزاب، والتي هي العقل وتكاليف الدّين كما بينّاه أعلاه، فالإنسان في الدّنيا مكلّف بالعمل بأركان الإسلام الخمسة: الشّهادتين والصّلاة والزّكاة والصّيام والحجّ، وبالإيمان بأركانه السّتة: بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وبالعمل بطاعة الله تعالى، والابتعاد عن معصيته سبحانه، حتى يصل درجة الإحسان بأن يعبد الله كما يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه؛ ثم بعد ذلك، فالسّعيد يوفّق لعمل أهل السّعادة، والشّقي يوفّق لعمل أهل الشّقاوة، فلا بدّ إذاً من تقوى الله والعمل بما يرضيه، قال صلّى الله عليه وسلّم: “اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} البخاري.

8.1.3- ومن أجل هذه الأمانة التي حملها الإنسان، خلق الله السّموات والأرض، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} هود، وخلقَ الموتَ والحياة، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)} الملك، وأرسلَ الله تعالى الرّسل، وأنزل الكتب، وأمر وحذّر، وبشّر وأنذر، ووعَد وأوعد، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)} المدّثّر، وقال: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ (30)} الإنسان، وقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ (166)} آل عمران. ولولا ذلك، أي لولا حملُ الإنسان الأمانة، لما كان لبعث الرّسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع فائدة، ولأطاع النّاس ربّهم بالفطرة، ولكان حالُهم كحال الدوابّ والجماد، أو غيرها مِن المخلوقات التي لم تُكلّف بشرع، وإن كانت عابدة لله تعالى بفطرتها عبوديّة قهرية لا عبودية تكليفية؛ غير أنّ الإنسان خلاف ذلك تماماً، فقد منحهُ الله تعالى العقل وأناط بعقله التّكليف؛ ومقتضى التكليف أن يُثابَ على الطاعة ويُعاقبَ على المعصية، وهذا معنى قوله سبحانه: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (286)} البقرة، وقولِه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} الشّمس، وقوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ (111)} النّساء، وقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} الزّخرف، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} البيّنة، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، وإنما كانوا شرّ البريّة، لأنّهم عرَفوا الحقّ فلم يمتثلوه، وأدركوا الباطل فعمِلوه، فعطّلوا حواسّهم التي من شأنها أن تميز بين الخير والشّرّ، والضّار والنّافع، والصّالح والطّالح، فكانوا بذلك كالأنعام بل هم أضلّ، لأنّ الأنعام لا تمييزَ لها، بخلاف الإنسان الذي أنعمَ الله تعالى عليه بنعمةِ العقل، فعطّلَ نعمة الله تعالى عليه، فكان من شرّ البريّة.

 

8.1.4- القضاء والقدر: هو الرّكن السّادس من أركان الإيمان، وقد تبيّن لنا أعلاه في هذا الباب، أنّ الله تعالى قد قضى أن يخلق النّاس ليسعدوا بنعمة معرفته ومحبّته ونعمة عبادته وطاعته، وقال تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ (23)} الإسراء؛ وأنّه تعالى قد قدّر أن تكون كمال سعادة النّاس بأن يكونوا أحراراً في اختياراتهم لمصائرهم وأفعالهم، ضمن قضاء الله تعالى الذي لا يتغيّر، فينالوا بذلك الدّرجات تبعاً لاختيارهم وأعمالهم، قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} الزّلزلة، فالإنسان له قدرة واختيار وعمل؛ وقال الأصفهاني في المفردات: القدر هو التّقدير، والقضاء هو الفصل والقطع، وهذا كما قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنهما لما أراد الفرار من الطّاعون بالشّام: “أتفرّ من القضاء؟ قال: أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله”، تنبيهاً أنّ القدر مالم يكن قضاء فمرجوّ أن يدفعه الله فإذا قضى، فلا مدفع له، وقال الجرجاني: القدر خروج الممكنات من العدم إلى الوجود واحداً بعد واحد مطابقاً للقضاء، والقضاء في الأزل، والقدر فيما لا يزال، والفرق بين القدر والقضاء هو أن القضاء وجود جميع الموجودات في اللوح المحفوظ مجتمعة، والقدر وجودها متفرّقة في الأعيان بعد حصول شرائطها، والقضاء في الاصطلاح: عبارة عن الحكم الكلّي الإلهي في أعيان الموجودات على ما هي عليه من الأحوال الجارية في الأزل إلى الأبد.

8.1.4.1- انظر أيضاً حول موضوع القضاء والقدر: في الفصل رقم 006.6.4 من سورة الأنعام في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن؛ وكذلك الفصل 018.7.6 من سورة الكهف؛ والمطلب 038.7.4.3.2- من سورة ص، وفيه: لا شيء في الوجود يستطيع أن يعصي الله، بل الكل مسيّر مجبر على طاعته؛ والباب 056.4 من سورة الواقعة.

 

8.1.5- إقامة الحجّة على أعمال العباد، وعلاماتها في الدّنيا: لقد سبق في علم الله سبحانه وتعالى أنّ النّاس فئتان: فئة أحبّت وأرادت الهدى والإيمان فيهديها الله، وفئة أحبّت وأرادت الكفر والضّلال فأضلّها الله، أي: فشرح الله صدر من أراد الهدى للإسلام، وجعل صدر من أراد الضّلال ضيّقاً، لا ينفذ إليه الإسلام، قال تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)} الأنعام؛ كذلك يتواصل ويزداد هذا الانشراح أو الضيق مع مرور الزّمان، وتراكم الخبرات، حتى تقوم الحجّة البالغة على الفئتين، قال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} الأنعام، ولهذه الحجّة البالغة التي يقيمها الله تعالى على النّاس، المهتدي منهم أو الكافر، علامات مبينة واضحة في الدّنيا، يبصرها العالم والجاهل على حدّ سواء، هي الابتلاء أو العذاب، فيعلم مقصدها ومغزاها المؤمن، ويجهله الكافر، كما يلي:

8.1.5.1- بداية يجب أن نعلم أنّ الله سبحانه وتعالى يفرح بتوبة عباده، وقد جاء في الحديث الصّحيح عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ”؛ ويغضب الله سبحانه إذا انتهكت حرماته، كما جاء في الحديث الصّحيح: عن أبي هريرة عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: “إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى، أنْ يَأْتِيَ الْمَرْءُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ” متّفق عليه. فيغار الله تعالى على شرعه وعلى محارمه أن تُنتهك ولذا فإنّه تعالى توعّد العصاة بالعذاب وتعجّل عقوبة بعضهم في الدّنيا ليكونوا عبرة لغيرهم.

كذلك، قد أمر الله تبارك وتعالى عباده بالتّوحيد، ونهاهم عن أعظم الذنوب وأكبرها وأقبحها، وهي الشّرك، لأن بالشّرك يعبد غير الله ويشكر غير المُنعم، فإذا توجّه العبد بشيء من عمله إلى غير المُنعم فشكَرَه وعبده من دون الله، فإنّ في ذلك ظلم عظيم، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} لقمان، ولذلك كان الشّرك ذنبه لا يغتفر، فكتب الله على صاحبه الخلود في النّار، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} النّساء، فالله يغار على عبده أن يعبد غيره، أو أن يحبّ، أو أن يتعلّق قلبه بغيره، فإن الله يغار على قلب عبده المؤمن أن يتوجّه إلى غيره، وأن يشتغل بغيره، وأن يمتلئ بحبّ غيره.

8.1.5.2- الابتلاء: من أحبّ المال ابتلاه في هذه الدّنيا بنقص المال ولم يستأصله، ومن أحبّ الرياسة ابتلاه بالرّياسة مع نقص، ومن أحبّ الأولاد ابتلاه بهم، بموت أو مرض أحدهم، ومن أحبّ الإيمان ابتلاه بوجود الكفّار والهجرة من الديار، وغيرها من الابتلاءات في باقي النِّعم والشّهوات، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)} البقرة. فالابتلاء يكون بشيء بسيط أو نقص مما سبق به فضلُ الله من النّعم، وليس بذهاب كلِّها. والابتلاءُ بالنسبة للإنسان نعمة، جعله الله (والله أعلم) من أجل إشباع نهم وفضول الإنسان الذي لا يقف عند حدّ، وتحقيق زكاته ورقيّه إلى الخلود باتّباع الأسباب؛ فآدم لَم يأخذ بأسباب النّعيم التي هيأها الله تعالى له في الجنّة، فعصى ربّه وأكل من الشّجرة طمعاً بأن تكون هذه الشّجرة سبب أو طريق الخلد الذي لا يبلى، قال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ (120)} طه.

8.1.5.3- العذاب: الله له ملكوتُ السّموات والأرض، خالقُ كُلِّ شيء ومليكُه، وخالقُ كلِّ النِّعم؛ من أخذها بحقّها وبأسبابها التي جعلها الله لها، أغناه الله، ومن اغتصبها بغير حقّها وبدون أسبابها، أفقره الله، وأخذ منه أعزّ ما يملُك من نِعَم: فمن سَلب المال سَلب الله منه الصّحة التي تأتي بالمال، ومن اعتدى على أعراض النّاس، أُعتدي عليه وعلى عرضه، ومن روّع النّاس عاش في رعب، ومن سَلب ونهب، سُلِب ونُهِب، ومن قتل يُقتل ولو كان في بروج مشيدة، ولاحقه الموت حتى في نفسه وقلبه، والجروح قصاص، وإذا لم يقتص منه في الدّنيا عذّب بذنبه في الدّنيا واقتص منه في الآخرة، كلّه بتقدير الله. فالقاتل متعمداً، فإنّما قتل نفساً واحدة ولكنّه كمن قتل النّاس جميعاً، لأنه أراد القتل وأصرّ عليه، والدّال على الشرّ كفاعله، ففي كل القوانين يُقتل ويقتصُ منه؛ ومن أحياها فكأنما أحيا النّاس جميعاً لأنه أراد الحياة، فتمنح له الحياة والأمان، ويبارك له في عمره، وينجيه الله ولو كان في بطن الحوت أو في حرب ضروس (انظر نعمة التدريب على الإيمان، وانظر نعمة سنّة الله في الابتلاء، التي بيّناها في أماكن كثيرة في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، وبينّا فوائد الإيمان العظيمة حتّى في الدّنيا). لا يعلم الإنسان أين جعل الله له الخير، كما بيّنتهُ لنا سورة الكهف، فالله يتولّى المؤمنين وذريّاتهم وأموالهم ويحفظ لهم أسباب رزقهم، فقد حافظ على سفينة المساكين بأن خرقها، وأبدل الغلامَ الكافرَ لكيلا يُفسِد إيمانَ والديه، وحفظ الكنز َ لأولاد الرّجل الصالح؛ أنظر أيضاً الموضوعات التالية في هذا الكتاب:

8.1.5.4- حول نفس الموضوع راجع ما يلي: 7.3- نعمة تطبيق الدين وشؤم ونقمة عدم تطبيقه، أي بعد أن تمت الهداية إلى الصراط المستقيم، ما هي ثمرة الدعوة إلى الهدى سعادة أو شقاء في الدارين. 7.3.1- السعادة بالتعلم بالتجربة والخطأ، والسعادة بالتعلم بالابتلاء والجزاء. 7.3.2- خلق الله الإنسان لكي يكرمه ويسعده في الدنيا والآخرة، بالمعرفة والعبادة. 7.3.3- سعادة الإنسان بالتزكية، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} الشمس. 7.3.4- سعادة الإنسان بشكر الله وعبادته، قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} الإنسان. 7.3.6- سعادة الإنسان بمحبة الله.

– راجع أيضاً سورة الشمس، في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، خاصة (091.2) فضائلها وما ورد عنها من الأثر.

– راجع أيضاً سورة الليل، في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، خاصة (092.2) فضائلها وما ورد عنها من الأثر.

8.2- هذا هو الباب الثامن والأخير، في هذا الكتاب، حيث أنّنا قمنا فقط بتلخيص مقصد القرآن ككل (أمّا مقاصد السّور منفردة فقد جعلناها في الباب الرابع أعلاه لتكون كالعنوان وكالتمهيد لفهم الأبواب التي تليها)؛ إن مقصد القرآن هو التّعريف بأسماء الله الحسنى أولاً، ثمّ بيان طريق الهدى الموصل إلى محبّة الله ونعمته ثانياً، لمن أراد أن يذّكر ويتبع سبيل الهدى إلى الفلاح والسّعادة؛ وهذان المقصدان (الهدى والنِّعمة) لهما مقصد واحد في ما يخص الإنسان هو أن الله أوجد الإنسان ليُنعم عليه، فيُكرمه ويُسعده في الدّنيا والآخرة؛ وأنّ هذه الدّنيا هي دار الابتلاء، ليختار المؤمنون فيها طريق هجرتهم ودرجاتهم التي يستحقّونها في الجنّة، ولكي تقوم الحجّة والعذر عليهم بأعمالهم، ويعلموا القدْر الذي يستحقّونه من النّعيم والسّعادة بما قدّموه لأنفسهم في الدنيا؛ أما الكافرون فسيندمون حين لا ينفع النّدم، وسيعلمون، وسيعترفون حين يرون العذاب أنّهم كانوا ظالمين، قال تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ (11)} غافر.

وكنّا قد بيّنّا في الباب الثامن هناك في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، مقصد موضوعات كل سورة على انفراد ثم بيّنا تناسبها وترابطها مع ما قبلها وما بعدها، وكنّا قد بيّنا أن جميع مقاصد السّور تصبّ في النهاية في مقصدين اثنين هما الأول الهدى إلى الصّراط المستقيم، والثاني إظهار نِعَم الله التي لا تُحصّى على النّاس: وقد قمنا بتعريف وتحديد المقصد لكلّ سورة اعتماداً على موضوعاتها التي بيّنت طريق الهدى ونِعَم الله على الإنسان من اتجاهات مختلفة، فكان مقصد السّورة هو العنوان والملخّص لموضوعاتها، مثلاً: مقصد سورة الفاتحة هو حمدُ الله على نِعمَة معرفة الله وربوبيّته للعالمين ورحمته وبيانه الصّراط المستقيم، وسور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة هو نِعمَة بيان طريق الهداية، وسورتي الأنعام والنحل بيان نِعَم الله التي لا تُحصَى، والكهف بيان نِعمَة الابتلاء، والعنكبوت بيان نِعمَة الفتنة، وهكذا في كلّ سور القرآن.

8.2.1- لقد تكرر هذا الباب الثامن من أبواب التسهيل في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن 114 مرّة، أي بعدد سور القرآن، حيث بيّنا هناك في كلّ سورة، تناسب مقصد كلّ سورة مع ما قبلها ومع ما بعدها، أمّا هنا ففي هذا الكتاب تسهيل فهم القرآن، فنكتفي بما أشرنا إليه في الفقرة السابقة مباشرة بأن مقصد القرآن هو هداية الثّقلين إلى الصّراط المستقيم، وأنّ هذه الهداية نِعمَة وتكريم للإنسان؛ وأنّ الغرض من الهدى إلى الصّراط المستقيم هو الوصول إلى محبّة الله تعالى، والتمتّع بِنِعَم الله، وإدامتها، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} الفاتحة؛ وليس الغرض أن ينشغل الإنسان بالصّراط المستقيم عينه أو ذاته، أو أن يجعله هو المقصد والهدف النهائي من الهدى، بل هو الطريق والحبل الممدود الموصل إلى الله تعالى، وأنّ الصّلاة والزّكاة والصّيام والحجّ والجهاد والأعمال الصّالحة كلّها من وسائل التعلّم والتّواصل مع خالق النِّعمَة لبلوغ محبّته، قال تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (31)} آل عمران، فإذا بلغ العبد درجة الحبّ لم يعد يبالي بمتاع الدّنيا، بل ويبذله رخيصاً في سيل الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)} التّوبة.

قال صلّى الله عليه وسلّم: “اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ فِعلَ الخيراتِ، وتَركَ المنكَراتِ، وحُبَّ المساكينِ، وأن تَغفِرَ لي وتَرحمَني، وإن أردتَّ فِتنةً في قومٍ فَتوفَّني إليكَ وأنا غيرُ مَفتونٍ، اللَّهمَّ أسألُكَ حُبَّكَ، وحَبَّ مَن يُحِبُّكَ، وحُبًّا يُبَلِّغُني حُبَّكَ.” رواه أحمد والترمذي.

أما بيان مقاصد كلّ السور وبيان تناسبها وترابطها فقد ذكرناه في الباب الرابع (4) أعلاه حول مقاصد السور، فلا نكرره هنا. انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

 

8.2.2- بقي أن نشير مرّة أخرى إلى الحقيقةُ الكبرى التي يجهلُها أكثر ُالنّاس ولا يؤمنونَ بها، هي أنّ الله خلق النّاس ليعبدوه لأنّهم هم الذين يحتاجون أن يكونوا عباداً لله، وليس لأنّه سبحانه بحاجة إلى عبادتهم. وأنّ كلَّ شيء يحدث في حياة الإنسان سيكون تابعاً لهذه العبادة، قال تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} النّساء، وقال: {وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)} الأحزاب؛ وفي الحديث قال صلّى الله عليه وسلّم: “يَا مُعَاذُ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ فَقَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ” متّفق عليه.

 

8.2.3- كذلك الحقيقة الخطيرة الأخرى والتي يجب أن يتنبّه إليها الجميع، هي أنّه صحيح أنّ الله خلق الخلق والنّاس برحمته، وأنّه يعاملهم بالرّحمة وباسمه الرّحمن الرّحيم، وأنّ الله يغفر الذنوب مهما بلغت، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} الزّمر، لكن الذي يجهله أو يغفل عنه الكثير من النّاس، هو أنّ الإنسان حَمَلَ أمانة الخلافةِ على الأرض، لكي يحافظ عليها كما أراد الله وقدّر لها أن تكون، وأن يُصلح فيها ولا يفسد، وأنّ الله تعالى يغفر الذّنوب جميعاً (لمن آمن بالله) مالم تنتهك حقوق العباد، وأنّ جميع النّاس هم في فُسحة من رحمة الله مالم يصيبوا حقاً من حقوق العباد، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا” البخاري، وقَالَ: “إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ، الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ” البخاري، وقال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} التكوير، وقال: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} النّساء، فيجب أن يحذر النّاس أشدّ الحذر من أن يصيبوا دماً حراماً، أو أن يصيبوا شيئاً ولو يسيراً من حقوق العباد؛ فهذه الحقوق يجب أن تردّ لأصحابها، في الدّنيا أو في الآخرة، أو في كليهما؛ وليست حقوق العباد فقط وانتهى، بل وكذلك حقوق الحيوانات، قال صلى الله عليه وسلم: “دَخَلت امْرَأةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ ربطتها، فلم تُطْعِمها، ولم تَدَعْها تأْكُل مِن خَشاشِ الأرض” أخرجه البخاري ومسلم، وفي رواية: “عُذِّبت امرأةٌ في هرَّةٍ سجنتْها حتى ماتت، فدخَلتْ النَّار، لا هيَ أَطْعَمتها وسقتها، إِذ هي حَبسَتها، ولا هي تَرَكَتها، تَأكُل مِن خَشاشِ الأرض” أخرجه البخاري ومسلم، الحقيقة أنّ الأمر خطير بأن يقع في العذاب لأنّه عذّب هرّة.

 

8.2.4- أخيراً: الفرق بين المؤمن والكافر، هو أنّ المؤمن أحبّ الحقّ وشاء أن يهتدي إلى الحقّ فهداه الله، والكافر أحبّ الهوى وشاء الضّلال فأضّله الله على علم، فخذله وهو مدرك لذلك بإقامة الحجّة عليه، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)} الجاثية؛ المؤمن أقبل فسمع النّذير، فتعلّم وتعرّف على الله، فأحبّ الله لأسمائه وصفاته، فاتّقاه فأطاعه وتعبّده، فحصل على فضله ونِعَمِه، ثمّ أحبّه أكثر لإحسانه، في عمليّة طرديّة، أي كلّما عرفت أكثر كلّما أحببت أكثر فأطعت أكثر واتّقيت أكثر فحصلت على رِضَاً ومحبّة ونِعَم أكثر. إنّ وُعُود الله تعالى حقّ وصدق ولا تتوقف، ولا يُخلف الله وعده، قال تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ (111)} التوبة، ووعد الله حقّ، قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87)} النّساء، يعدهم بالنّعيم في الدّنيا قبل الآخرة، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (55)} النور، وقال: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا (16) لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)} الجن، وقال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} الأعراف، وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ (66)} المائدة. الكافر يوم القيامة ينْدم أشَدّ النّدَم، ويتألّم أشَدّ الألَم، ويمْقُتُ نفسه أشَدّ المقت، ويكرهُها، ويُبغضُها، ويحْتقِرها، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ (11) ذَٰلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)} غافر، وقال: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)} المؤمنون.

 

8.3- هذا هو الباب الثامن والأخير من أبواب تسهيل فهم القرآن، والذي فيه نعيد ربط مقصد السّورة وموضوعاتها مع سياقها العام في القرآن الكريم (بعد فصلها عن محيطها في الأبواب السابقة) لتتناسب السّور ولتفهم مع مجموع القرآن كسورة واحدة مترابطة. فإن مقاصد السّور، سواء أكانت منفردة أو مجتمعة فهي في وحدة موضوعية واحدة مع مقصد القرآن كما بيّناه تكراراً في الأبواب السابقة، وهو الهدى إلى الصّراط المستقيم، طريق الفلاح والسّعادة الأبديّة، قال تعالى: {أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} البقرة، وقال: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} لقمان، وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14)} الأعلى، {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} الشمس. إن الله تعالى يريد لنا السعادة والنجاة من الشقاء، ولا يوجد إلا طريق واحد للسعادة والنجاة، فأنزل الله القرآن ليهدي إلى هذا الطريق؛ وهو عمل الخير: من البر والتقوى والتعاون بالمعروف، واجتناب الشر: وهو الإثم والعدوان والإفساد في الأرض. الله يريد لنا السلام وأن ننشر الإسلام لكي نعيش بسلام، والناس يريدون الفساد وإشاعة الظلم والهلاك، قال تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس لنذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون (41)} الروم، وعكس الفساد الاستقامة والصلاح، قال تعالى: {وألّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءاً غدقاً (16)} الجن.

8.3.1- في هذا الباب الثامن أكّدنا تناسب ترتيب السّور باعتبار مقاصدها وموضوعاتها، وأكّدنا أنّ لمقاصدها سياقاً متكاملاً ومتناسباً بأسلوب مبهر معجز يظهر من خلاله كمال وحسن تأليف هذا القرآن الحكيم، ووحدة مقاصد سُوره حول المقصد الوحيد للقرآن والذي هو بيان طريق الهدى إلى الحقّ والصّراط المستقيم؛ وفي ما يخصّ موضوع هذا الكتاب “تدبر سور القرآن”، فإنّ الفائدة التي نجنيها من تدبّر وبيان هذا التّناسب والتّرابط والتّكامل بين مقاصد السّور، أنّه حين يتَتَبّع القارئ تناسب مقاصد السّور، وهي عناوين ما يقرأ، يستجمع فكره على مقصد أو عنوان واحد يفهم ويرى من خلاله معاني كلّ كلمة وآية وموضوع وحكمة وموعظة وقصّة ومثل وأمر ونهي وترغيب وترهيب، ويبقي تركيزه في السّورة، ولا يتشتّت تفكيره بين المعاني المختلفات، ويصير القرآن كلّه كالسّورة الواحدة، يشدّ إليه انتباه القارئ، ويكون الترابط والتناسب حافزاً مشوّقاً لتدبّر معاني القرآن في خط سير واحد، باتجاه مقصد واحد وهو الطريق إلى محبّة الله، وهو التدبّر الذي أمر به القرآن، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} ص؛ فيعلم بذلك المتدبّر ويتذكّر أنّه خُلق لعبادة الله وحده، ويرى مكانه الصّحيح على طريق الهدى المبين، والمبيّنة آياته من أول كلمة إلى آخر كلمة في هذا القرآن، ويعلم مصيره الذي سيقوده إليه عمله، فالقرآن كما في الحديث، هو: “حبل الله المتين، وهو الذّكر الحكيم، وهو الصّراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، والشفاء، وينبوع كل حكمة، ومعدن كل فضيلة، من قال به صدق ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم”؛ تحيا به القلوب والأبصار، قال تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)} الرعد، وقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} البقرة، وقال: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)} غافر، إنّه أفضل الكلام وأشرف العلوم.

8.3.2- بالإضافة إلى تناسب مقاصد السّور في القرآن كاملاً، التي بينّاها أعلاه وجعلناها في هذا الباب الثامن من كتابنا (تدبر القرآن وفي كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)، وجدت كتابين يتحدثان أيضاً حول نفس موضوع تناسب وترابط السّور ولكن بطريقة مختلفة، فنقلتهما كاملين تقريباً (مع بعض الحذف) لمزيد الفائدة في هذا الباب الثامن، لكن موزّعين في مكانهما المناسب من السّور، وهما: أسرار ترتيب القرآن للسّيوطي، حيث تحدّث عن التناسب بين الآيات وأجزاء من السّور، والبرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن للإمام أبو جعفر بن الزبير الغرناطي، تحدّث عن تناسب موضوعات سور القرآن، كما يلي:

8.3.2.1- أسرار ترتيب القرآن للسيوطي، ومن أمثلة هذه المناسبات: قال الإمام جلال الدين السيوطي في كتابه “أسرار ترتيب القرآن”: قد ظهر لي بحمد الله وجوهاً من هذه المناسبات‏: أحدها أن القاعدة التي استقر بها القرآن‏:‏ أن كل سورة تفصيل لإجمال ما قبلها وشرح له وإطناب لإيجازه وقد استقر ذلك في غالب سور القرآن طويلها وقصيرها. ومثال عليه انظر كيف أن سورة البقرة قد اشتملت على تفصيل جميع مجملات الفاتحة. وقال: إذا وردت سورتان بينهما تلازم واتحاد فإن السورة الثانية تكون خاتمتها مناسبة لفاتحة الأولى للدلالة على الاتحاد. وفي السورة المستقلة عما بعدها يكون آخر السورة نفسها مناسب لأولها، فآخر آل عمران مناسب لأول البقرة فإنها افتتحت بذكر المتقين وأنهم المفلحون وختمت آل عمران بقوله‏:‏ {‏واتقوا الله لعلكم تفلحون‏}، وافتتحت البقرة بقوله‏:‏ {‏والذينَ يؤمنونَ بما أُنزلَ إِليكَ وما أُنزلَ من قبلك‏}‏ وختمت آل عمران بقوله‏:‏ {‏وإِنَ من أَهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم}. وقال: من أكبر وجوه المناسبات في ترتيب السور وهو نوع من البديع يسمى‏:‏ تشابه الأطراف. ومنها مثلاً أن سورة آل عمران ذكر فيها قصة أحد مستوفاة وذكر في سورة النساء ذيلها وهو قوله‏:‏ {‏فما لكُم في المنافقين فئتين‏}، فإنها نزلت لما اختلف الصحابة فيمن رجع من المنافقين من غزوة أحد كما في الحديث ومنها‏:‏ أن في آل عمران ذكرت الغزوة التي بعد أحد بقوله‏: {‏الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أَصابهُم القرح}‏ وأشير إليها في سورة النساء بقوله‏:‏ {‏ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإِنَهُم يأَلمونَ كما تأَلمونَ}. وقال أيضاً: وسائر السور المفتتحة بالحروف المقطعة كلها مقترنة كيونس وتواليها ومريم وطه والطواسين و‏{‏الم‏}‏ العنكبوت وتواليها والحواميم وفي ذلك دليل على اعتبار المناسبة في الترتيب بأوائل السور ولم يفرق بين السورتين من ذلك بما ليس مبدوءاً به سوى بين الأعراف ويونس والفصل بالزمر بين ‏{‏حم}‏ غافر و {‏ص‏}، ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع تقديم الحجر على النحل مع كونها أقصر منها لمناسبة ذوات ‏{‏الر}‏ قبلها، وتقدم آل عمران على النساء وإن كانت أقصر منها‏ بسبب اشتراكها مع البقرة في الافتتاح بإنزال الكتاب وفي الافتتاح ب ‏{‏الم‏}‏، وتقدم السجدة على الأحزاب التي هي أطول منها لمناسبة الافتتاح مع ما قبله ب {الم}. وقال أيضاً: كل ربع من القرآن افتتح بسورة أولها الحمد: الفاتحة للربع الأول والأنعام للربع الثاني والكهف للربع الثالث وسبأ وفاطر للربع الرابع وقال أيضاً: وقد وقع تناسب الختام في السور المقترنة، ويشهد له اقتران سورة الحجر بالسورة السابقة مع مناسبة ما ختمت به لبراعة الختام وهو قوله‏: {واعبُد ربَكَ حتى يأَتيكَ اليقين} فإنه مفسر بالموت وذلك مقطع في غاية البراعة وقد وقع ذلك في أواخر السور المقترنة كلها، ففي آخر آل عمران‏: {واتقوا اللَهَ لعلَكُم تُفلِحون} وفي آخر الطواسين‏:‏ ‏{‏كل شيء هالك إِلا وجهه له الحكم وإِليه تُرجَعون‏}‏ وفي آخر ذوات ‏{‏الر‏}‏‏:‏ {وانتَظِر إِنَهُم مُنتَظرون} وفي آخر الحواميم {كأَنَهُم يومَ يرونَ ما يوعدونَ لم يلبثوا إِلا ساعة من نهار بلاغ}. وقال: إذا وقعت سورة مكية بعد سورة مدنية افتتح أولها بالثناء على الله كالأنعام بعد المائدة والإسراء بعد النحل والفرقان بعد النور وسبأ بعد الأحزاب والحديد بعد الواقعة وتبارك بعد التحريم لما في ذلك من الإشارة إلى نوع استقلال وإلى الانتقال من نوع إلى نوع.

وقال: إن عادة القرآن إذا ذكر الكتاب المشتمل على عمل العبد، حيث يعرض يوم القيامة أردفه بذكر الكتاب المشتمل على الأحكام الدينية في الدنيا التي تنشأ عنها المحاسبة عملاً وتركاً، كما قال في سورة الكهف: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه} آية (49) إلى أن قال: {ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل} آية (54). وعادة القرآن العظيم إذا ذكر أحكاماً ذكر بعدها وعداً ووعيداً، ليكون ذلك باعثاً على العمل بما سبق، ثم يذكر آيات التوحيد والتنزيه ليعلم عظم الآمر والناهي، وتأمل سورة البقرة والنساء والمائدة وغيرها تجده كذلك. وعادة القرآن المزاوجة بين الوعد والوعيد، والبشارة والنذارة، والترغيب والترهيب.

8.3.2.2- البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن للإمام أبو جعفر بن الزبير الغرناطي؛ وقال في مقدّمته: نبه تعالى بقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ (82)} النساء، و (24) محمّد، وبقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ (29)} ص، وجهات اعتباره كثيرة، ولسلف هذه الأمة وخلفها مسالك في ذلك شهيرة. وإني تأملت منها، بفضل الله، وجوه ارتباطاته وتلاحم سوره وآياته إلى ما يلتحم مع هذا القبيل من عجائب شواهد التنزيل، فعلقت في ذلك ما قدر لي، ثم قطعت بي قواطع الأيام عن تتميم رومي من ذلك وعملي، فاقتصرت بحكم الاضطرار في هذا الاختصار على توجيه ترتيب السور، وإن لم أر في هذا الضرب الخاص شيئا لمن تقدم وغبر، وإنما بدر لبعضهم توجيه ارتباط آيات في مواضع مفترقات، وذلك في الباب أوضح، ومجال الكلام فيه أفسح وأسرح. أما تعلق السور على ما ترتبت في الإمام، واتفق عليه الصحابة الأعلام، فمما لم يتعرض له فيما أعلم، ولا قرع أحد هذا الباب ممن تأخر أو تقدم، فإن صلى أحد بعد فهذه الإقامة، أو أتمَّ فمرتبط حتما بهذه الإمامة، فإن أنصف فلابد أن ينشد إذعاناً للحق وإنابة: فلو قَبل مبكاها بَكت صبابة. ولما كمل لي بفضل الله الأمل من جليل هذا العمل، غريباً في بابه، رفيعا في نصابه، تيسّر لي المطلوب بحول الله من هذا الغرض، موفى بحسن التحرير، معدوم النظير، يحصل بمطالعته العلم اليقين، وتفصح بشهادته أن العاقبة للمتقين، والله ينفع فيه بالنية ويبلغ من مرضاته الأُمنيَّة، بمنه ويُمنه.

أعلى الصفحة Top