العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)
007.0 سورة الأعراف
ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا
007.1 التعريف بالسورة:
1) سورة مكية ماعدا الآيات من 163 إلى 170 فمدنية. 2) هي من سوره الطول. 3) عدد آياتها 206 آية. 4) هي السورة السابعة من حيث الترتيب في المصحف. 5) والتاسعة وثلاثون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “ص”. 6) ليس لها أسماء أخرى. 7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:
ورد لفظ الجلالة {الله} في السورة 44 مرّة، وكلمة {رب} 54 مرّة، هو 7 مرّات، خلق 6 مرّات، أنزل 5 مرّات؛ وتكرر (2 مرتين): الرحيم، الغفور، الولي، يورث، نبلو، مخرج، كتب، بعث؛ (1 مرّة): العليم، السميع، خير الحاكمين، سريع، أرحم الراحمين، له الخلق، بدأ، محيي، يميت، منتقم، خير الغافرين، خير الفاتحين، فضّل، كاشف، ذرأ، بلاء، فتن، تعالى. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.
وهي أكثر سورة يتكرر فيها لفظ {رب}، تليها الأنعام 50 مرة ثم البقرة 48 مرة. وتكرار كلمة الرب يشير إلى أن الناس المخاطبين بعيدين عن ربهم، وهم بحاجة إلى تربية وإلى هداية. فالرب يدل على التربية والإحسان. وتكرار كلمة “ربنا” كما في السورة، وهي أكثر صفة تقترن بالدعاء، والتذلل إلى الله، هي إشارة إلى حاجة الناس وتوسلهم إلى ربهم، وفي هذه السورة نجد حضاً كثيراً على الدعاء وطلباً شديداً له كما في الآيات (29، 55، 56، 94، 126، 180، 194-200، 205)، ويوجد غيرها كثير من الآيات تتحدث عن الدعاء مثل الآيات (14، 23، 151، إلخ). وكذلك السور التي يتكرر فيها الاسم “رب” مبنية في أوامرها ونواهيها على الترغيب كما هو الحال في سورة الرحمن. وكذلك فإن السور التي فيها الاسم “رب” تكثر فيها الآيات الدالة على الخلق والملك، كما هو موجود في سورة الأنعام.
هي أكثر سورة ورد فيها الأمر {اعبدوا الله مالكم من إله غيره} 4 مرات. وهي أكثر سورة وردت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: {كِبر} من استكبر 10 مرّات؛ {تضرع} هي والأنعام 3 مرّات لكل منهما من أصل 7 مرات في القرآن كله؛ {عَبد} من العبادة 10 مرّات؛ {آمن ، يؤمن} 24 مرّه؛ هي أكثر سورة بعد سورتي الرحمن (32 مرّه) والأنعام (20 مرّه) وردت فيها لفظة {كذب} 18 مرّه؛ هي أكثر سورة بعد سورتي البقرة (23 مرّه) والأنعام (21 مرّه) وردت فيها لفظة {هدى} 18 مرّه؛ هي أكثر سورة بعد سورة البقرة (19 مرّه) وردت فيها لفظة {تبع} من الإتباع 12 مرّه؛ هي أكثر سورة بعد سورة غافر (18 مرّه) وردت فيها لفظة {تدعو} 15 مرّه؛ هي أكثر سورة بعد سورتي البقرة (24 مرّه) والأنعام (17 مرّه) وردت فيها لفظة {ظلم، ظالم} 17 مرّه؛ هي أكثر سوره بعد سور البقرة (15 مره) وآل عمران (11 مره) وغافر (8 مرات) وردت فيها لفظة {نار} 6 مرات هي والتوبة.
007.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:
أخرج البيهقي في سننه عن عائشة “أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الأعراف في صلاة المغرب فقرأها في ركعتين”.
007.3 وقت ومناسبة نزولها:
سياق وموضوع السورة يشير إلى أن هذه السورة، كما في سورة الأنعام، نزلت في السنة الأخيرة من حياة النبي صلى الله عليه وسلّم في مكّة. انظر أيضاً كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن في المبحث: 1.5.5- مراحل نزول القرآن المكي.
007.4 مقصد السورة:
007.4.1- مقصدها: الأمر باتباع الهدى المنزل، وعدم اتخاذ الأولياء من دون الله: وهو يشمل التذكير والأمر بالإيمان، والتحذير من الكفر، والتعريف بأن الإنسان خلق لعبادة الله وحده، وأن هناك ميزان لكل أعمال الإنسان، وأن نتيجة هذه الأعمال إما الفلاح أو الخسارة.
وبكلام أوسع: الأمر باتباع الهدى يعني عبادة الله وحده كما فصّل هو في كتابه وعرّف به على نفسه وعلى دينه الذي ارتضاه لعباده، وذلك يشمل:
007.4.1.1- الأمر باتباع ما أنزل الله من الهدى لأن فيه العدل والنجاة، والنهي عن اتباع الأولياء من دونه لأن فيه الظلم والهلاك.
007.4.1.2- تعريف الناس بالمقصد من وجودهم وهو العبادة لله وحده (اتباع التنزيل).
007.4.1.3- والتعريف بمصيرهم إن هم اتبعوا أو إن هم كفروا. وأن الله جعل ميزاناً يزن عليهم أعمالهم في الدنيا (وهي دار العمل) ليجازيهم بها وعلى ما كسبت أيديهم في الآخرة (وهي دار الجزاء).
007.4.1.4- وأن الجزاء ليس مقصوراً على الدار الآخرة فقط ولكن قد يقدم جزء منه في الدنيا بأن يفتح عليهم الرزق والبركة بسبب إتباعهم وإيمانهم أو بالإهلاك والاستئصال بسبب تكذيبهم وكفرهم، وكذلك في الآخرة بالفلاح أو بالعذاب تبعاً لميزان أعمالهم.
007.4.1.5- الأمر بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره من الله، والتحذير من الكفر ومن اتباع الشياطين واتخاذهم أولياء.
007.4.2- ومقصد السورة نجده في الآية الثالثة التي تأمر باتباع ما أنزل الله، وتنهى عن اتباع الأولياء من دونه. تم تليها آيتين (4، 5) تلخصان حقيقة ما حصل وهو هلاك القرى، واعترافهم حين مجيء العذاب بأنهم حقيقون بهذا. ثم آيتين (6، 7) أن الله سائلهم عما فعلوا بما أرسل إليهم وسيسأل المرسلين، وهو عليم بما فعلوا وما كان غائباً عنهم، لكن ليشهدهم على أنفسهم ويقيم عليهم الحجة. ثم آيتين (8، 9) أنه سيحاسبهم بميزان الحق والعدل، فمن ثقلت موازينه بطاعة الله فقد أفلح وفاز ومن خفت موازينه فقد خسر بظلمه. أما الآية العاشرة (10) فهي تلخص قصة الإنسان من أولها إلى آخرها بأن الله أنعم عليه وأكرمه فمكن له في الأرض ليشكر، لكنه كان قليل الشكر لله، وعبد غير الله.
فالآيات العشرة الأولى هي مقدمة أوجزت كل محتويات السورة: وهو التكريم والتمكين للإنسان في الأرض ليشكر الله بالاتباع والطاعة؛ ثم واصلت بعدها آيات السورة في بيان مزيد من التفاصيل حول: تكريم الله للإنسان، بأن خلقه وأدخله الجنة، لكنه عصى الله، فتاب وتاب الله عليه، ثم أخرجه من الجنة إلى الأرض إلى أجل مسمّى، ليبتليه بالعمل والطاعة. فهل يتبع ما أنزل الله، أم يتبع الأولياء من دونه؟ وبيان ذلك في قصص قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم شعيب، وقصة موسى مع فرعون، وبني إسرائيل بعد الخروج من مصر، والمواجهة مع بني إسرائيل. ومن تأمل هذه المعاني يجد باختصار أنها كلها تدور حول مقصد السورة، وهو ضرورة اتباع هدى الله المنزل، وما أعد الله لمن اتبع الهدى وما جزاء من خالفه، وكيف نجى الله أهل الإيمان، وأهلك أهل الكفر، وعذبهم في الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر.
007.4.3- وقال الإمام برهان الدين البقاعي: مقصد السورة إنذار من أعرض عمّا دعا إليه الكتاب في السورة الماضية، من التوحيد والاجتماع على الخير، والوفاء لما قام على وجوبه من الدليل في الأنعام، وتحذيره بقوارع الدارين. وأدل ما فيها على هذا المقصد: أمر الأعراف، فإن اعتقاده يتضمن الإشراف على الجنة والنار، والوقوف على حقيقة ما فيهما وما أعد لأهلهما، الداعي إلى امتثال كل خير واجتناب كل شر. وقال أيضاً: السورة تحث على اتباع الكتاب، والكتاب يحث على اتباع الرسول، ويدل على التوحيد، وعلى البعث ببيان ابتداء الخلق وإهلاك الماضين إشارة إلى أن من لم يتبعه ويوحّد أوشك أن يعاجله قبل يوم البعث بعقاب مثل عقاب الأمم السالفة والقرون الخالية مع ما ادخر له في ذلك اليوم من سوء المنقلب وإظهار أثر الغضب.
007.5 ملخص موضوع السورة:
سورة الأعراف نزلت مع بدايات مرحلة اضطهاد المسلمين الواقعة ما بين السنة العاشرة والسنة الثالثة عشرة من بدء النبوّة، التي اشتدّ فيها البلاء على المسلمين في مكّة، وظلّ يتصاعد حتى بلغ بُغض قريش وكرههم لهم في نهايتها مداه، وبدأت تخرج كراهيتهم ورغبتهم بالتخلص من المسلمين من التخطيط إلى التنفيذ بأي طريقة، والشروع في القتل. وهذه مرحلة أذِنَ صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة المنورة سراً، بسبب منع قريش لهم، تاركين خلفهم بيوتهم وأموالهم وكلّ ما يملكون للكفار فراراً بدينهم. وفي هذه المرحلة الصعبة نزلت مجموعة من السور كانت أوّلها الأعراف، لمواساة وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والذين معه، عن طريق كشف سنن الكون الثابتة التي ستأخذهم في طريقها، وحقائق الغيب والزمان التي هم غافلون عنها، ووضعت النقاط على الحروف في تعريف الدين الحق بالمثال العملي والتجربة المعاشة، وبينت مستقبل الأمور ومصير الإنسان. وكما يدلّ اسمها: الأعراف، عرّفت الحقيقة كلّها، الماضي والحاضر والمستقبل، عبر عرضها التاريخ البشري كلّه جيلاً بعد جيل، وانتقل فيها البيان بين الدنيا والآخرة وما قبلهما وما بعدهما، وكأنه في مكان واحد متّصل ببعضه، وهو كذلك لأنه كلّه في نظر السورة خلق واحد لخالق واحد خلقه بتمامه وكماله بكلمة واحدة قالها: كُن، فكان هذا الوجود من بدايته إلى نهايته وقضي الأمر. ثمّ تتابعت بعدها نزول عشر سور هي: الإسراء ويونس وهود ويوسف والرعد والحجر والأنعام والنحل وإبراهيم والعنكبوت، بترتيب في النزول مشابهٍ للترتيب في المصحف الإمام (مع بعض الاختلاف بسبب طول أو قصر السورة). يثبّت الله تعالى فيها رسوله صلى الله عليه وسلم والقلّة القليلة ممن آمن معه على طريق الحق. ولم يزد عددُ المسلمين طُوالَ هذه المدّة عن بضعِ عشرات من المسلمين، ضيّق عليهم مشركوا قريش غاية الضيق، وآذوهم أشد الإيذاء. وتميّزت سورة الأعراف وما بعدها بأسلوب خطاب واضح قويّ قوّة الحق الذي تضمنته، وسرد بديع، مليء بالقصص عن الماضي والحاضر والمستقبل، وآيات خلق الله في السماوات والأرض، يغلب عليه إبراز التجربة البشريّة بمختلف تنوّعاتها عبر مراحل الزمان واختلاف المكان، والتطبيق العملي المتشابه إلى حدّ التطابق في الدعوة إلى الهدى والصراط المستقيم في الأمم، وهلاك القرون بسبب كفرهم وتكذيبهم، وفوز المهتدين بسبب إيمانهم. وهي أول سورة عرضت للتفصيل في قصص الأنبياء: نوح، هود، صالح، لوط، شعيب، مع أقوامهم. وقد اختارت مرحلة واحدة متأخرة من حياتهم فيها ما يتعلق بالرسالة والدعوة إلى اتباع التنزيل، في تناسب شديد مع ظروف المرحلة التي نزلت فيها.
هذه السورة العجيبة، التي تشبه بتنوّع محتوياتها سورة البقرة (والتي هي فسطاط القرآن)، وبكثرة تنقّلاتها الواسعة عبر المرور بالزمان والاختلاف والتغيّر في المكان والانتقال بين الحياة والموت، كانت كلمة الله المربّي، ولفتة الحق الواعظة والمنذرة، لتثبيت المؤمنين وتثبيط الكافرين. فالله تعالى هو خالقهم وخالق كلّ هذه الاشياء وخالق كلّ شيء فيها، فنبّهت إلى خلق آدم من تراب وتصوّيره ونفخ الروح فيه، وأقام عليهم الحجة بأن أخرج بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم وأشهدهم على أنفسهم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ۛ شَهِدْنَا (172)}، وأمر الملائكة بالسجود لآدم، وعداوة إبليس، ودخول آدم الجنة، ثم هبوطه إلى الأرض، وتحذيره من عداوة الشيطان، والتعريف بالحلال والحرام، وإرسال الرسالات والمرسلين، وأنباء الأمم، والكفر والإيمان والحساب والعقاب، وغيره.
007.5.0- مقصد سورة الأعراف هو: الأمر باتباع التنزيل، والنهي عن اتباع الأولياء من دون الله. وتدور كلّ محتويات السورة حول التكريم والتمكين للإنسان في الأرض، ليشكر الله بالاتباع والطاعة. وقد أوجزت هذه المعاني في الآيات العشر الأولى، ثم أتبعتها بستّ قصص تؤكّد دعوة المرسلين إلى الهدى، وأن أكثر الناس كذّبوا وأعرضوا واتبعوا الأولياء من دون الله، وختمت بذكر العهد المأخوذ على فطرة البشر أجمعين بأنّ الله ربهم، والأمر باتباع الهدى المتمثل بذكر الله وعبادته، والاستعاذة به من الشيطان.
007.5.1- وقد احتوت السورة باعتبار ترتيب آياتها على أربعة مواضيع رئيسية هي:
007.5.1.1- أولاً (الآيات 1-58): بيان أن فلاح الناس ودوام النعمة عليهم هو باتباع أوامر الله والسير على هدي أنبيائه؛ وخسرانهم وهلاكهم هو باتخاذهم الأولياء من دون الله وطاعتهم أوامر الشيطان.
007.5.1.2- ثانياً (الآيات 59-102): قصص عن مرحلة متأخرة من حياة خمسة من الأنبياء هم: نوح، وعاد، وثمود، ولوط، وشعيب، جاؤوا أقوامهم برسالة واحدة من ربّهم هي قوله تعالى: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، لتبين ما انتهت إليه الدعوة من نجاة المؤمنين وهلاك المكذبين، وما كان جزاؤهم الدنيويّ وماذا سيكون في الآخرة.
007.5.1.3- ثالثاً (الآيات 103-171): قصص عن مرحلتين من حياة موسى عليه السلام، الأولى (الآيات 103-137) قصّته مع فرعون وملئه، وكيف أنّه سبحانه أورث بني إسرائيل الذين آمنوا مشارق الأرض ومغاربها، وأهلك قوم فرعون لتكذيبهم وعدم إيمانهم. والثانية (الآيات 138-171) قصته مع بني إسرائيل، وكيف أنّهم بعد أن أنجاهم الله من البلاء العظيم، وجاءتهم مواعظه وآياته، فبدلاً من أن يؤمنوا فتشملهم رحمته الواسعة، اتّبعوا سبيل الغيّ، فأشركوا به واتخذوا العجل وبدّلوا كلامه سبحانه وعتوا عن أمره، فقطّعهم في الأرض وسلّط عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة.
007.5.1.4- رابعاً (الآيات 172-206): ذكر سبحانه العهد المأخوذ على فطرة البشر أجمعين، فليس لأحد عذر أو حجّة بأن يشرك بعد أن شهد على نفسه بأنّ الله ربّه؛ وليس لهم حجّة في اتباعهم ما وجدوا عليه آباءهم من الشرك، لأنه قد يعصي الآباء كما عصى الأب الأول آدم عليه السلام، وعصت الأمم من بعده. لذلك تختم بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّته، بقبول اليسر من أخلاق الناس والقول الحسن والفعل الجميل، والإعراض عن منازعة الجهلة، والاستعاذة بالله من الشيطان ووسوسته وغوايته، والأمر بالإنصات إلى القرآن، لأنّ فيه البصائر والهدى والرحمة لقوم يؤمنون.
007.5.2- أما باعتبار موضوعاتها فقد احتوت السورة على أربعة مواضيع رئيسية أيضاً، كما يلي:
007.5.2.1- أولاً (الآيات 11-25، 38-53): التعريف ببداية خلق الإنسان، وتكريمه بسجود الملائكة، وفتنة الشيطان لآدم وزوجه، وإخراجهما من الجنّة، ثم مصيرهم يوم القيامة.
007.5.2.2- ثانياً (الآيات 59-93، 103-157، 159-171): قصص حقيقيّة تبيّن أنّ الله أرسل جميع الرسل برسالة واحدة، هي عبادة الله وحده، والأمر باتباع الكتاب وما فيه من الدعوة إلى الإيمان والأمر بالعبادة، وأن الإيمان نعمة والتكذيب هلاك، وأن أكثر الناس معاندون وفسقة.
007.5.2.3- ثالثاً (الآيات 94-102، 180-206): بيان أنّ الدنيا دار ابتلاء، وأنّ هناك آخرة وحساب على الأعمال، وأنه يترتّب على الأعمال فلاح أو خسارة، في الدنيا والآخرة.
007.5.2.4- رابعاً (الآيات 1-10، 26-37، 54-58، 158، 172-179): أنّ الله أعذر الناس وأقام عليهم الحجّة، وأنّ الكفر والفساد متأصّل في أصحاب النّار، وأنه دعاهم إلى الاعتبار بهلاك من سبقهم من الأمم وأنّ أكثرهم كافرون، وأنه أشهدهم على أنفسهم بالإيمان وبأنّه ربهم.
فإذاً سورة الأعراف تعرّف الإنسان، بأسلوب قصصي حقيقي، على ماضيه وحاضره، ونهايته ومصيره، ومقصد وجوده، فتسرد عليه تاريخه من بداية خلقه إلى قيام الساعة. وقد اختفى الزمان، فالله سبحانه وتعالى لا يحدّه زمان ولا مكان، وكلّ شيء أراده قال له كن فكان. لكن الإنسان أثبت عبر تاريخه، بأنه كثير النسيان يكرر نفس الأخطاء، ظالم لنفسه متبع للشيطان راكض وراء شهواته، قصير النظر لا يرى الآيات، لاعب في أمور الجد، وجادّ في أمور اللعب بجري وراء الدنيا ووراء شهواته، يصدّق وسوسة الشيطان ويصغي لغوايته. والسورة هي بداية البيان العمليّ لطريق الهدى في الربع الثاني من القرآن الكريم، بعد البيان النظريّ في الربع الأول.
007.5.3- سورة الأعراف، ومعها السور التي تلتها، نزلت لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلّم ومن آمن معه في أوقات وظروف هي أصعبها وأحلكها بعد أن مستهم البأساء والضراء وزلزلوا، في جوّ مليء بالكراهية للإسلام، والعداء والقهر والاضطهاد والشروع بالقتل والخلاص من المسلمين بأي طريقة مشروعة أو غير مشروعة، وذلك الحال هو كما حالهم اليوم، فقد دار الزمان كما كان وعاد الإسلام غريباً كما بدأ، والله المستعان. لعلّ في اعتناء القرآن بالمسلمين في ذلك الوقت وخاصّة بنزول سورة الأعراف وما تلاها من السّور، ثمّ قيام الإسلام في المدينة إشارة وبشارة وتسلية للناس في هذه الأيام، كما كان في الأمس، فهم مثلهم ضعفاء لكن ليس بسب قلّة العدد بل بسبب الفرقة والشتات والضياع.
وهي أكثر سورة في القرآن تكرر فيها لفظ {رب} بعدد 54 مرّة، فالرب يدل على التربية والإحسان، وتكرار كلمة “ربنا” كما في السورة، وهي أكثر صفة تقترن بالدعاء، والتذلل إلى الله، هي إشارة إلى حاجة الناس وتوسلهم إلى ربهم، وفي هذه السورة نجد حضاً كثيراً على الدعاء وطلباً شديداً له.
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله. لقد جاءت رسل ربّنا بالحق، ربّنا اغفر لنا وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين.
007.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:
007.6.1- تفاصيل عن السورة حسب ترتيب وتسلسل الآيات:
تبدأ السورة بالأمر بالطاعة، ثمّ الإنذار {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين (6)}، ثم تستمر بالتفصيل، وسياق كله تصديق للإنذار الذي ابتدأت به {فلنقصّن عليهم بعلم وما كنا غائبين (7)}. يقصّ عليهم سبحانه دروس حقيقية عمّا حصل مع بعض الرسل عبر تاريخ الرسالات، حيث أن كلّ نبيّ بلّغ قومه نفس الرسالة {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}. وتبين بالمثال العملي كيف استقبل الناس دين الله في الأرض وماذا كان جزاءهم الدنيوي وماذا سيكون في الآخرة. وكل هذا بمثابة درس للأمة الخاتمة، أمة محمد صلى الله عليه وسلم {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)}.
007.6.1.1- الآيات (1-58) فلاح الناس ودوام النعمة عليهم هو باتباع أوامر الله وبالسير على هدي أنبياءه، وخسرانهم وهلاكهم هو باتخاذهم الأولياء من دون الله وطاعتهم أوامر الشيطان؛ وحصل ذلك في الجنة ولا زال يتكرر على الأرض، كما يلي:
007.6.1.1.1- الآيات (1-9) وجوب الطاعة: تبين هذه الآيات وجوب الطاعة وإتباع التكاليف التي جاء بها المرسلين، وأن الأعمال مسجلة ليوم الحساب، لأنه سبحانه ما كان غائباً عنهم في حال من الأحوال. وكم من قرية أهلكها الله عقاباً في الدنيا (وكما سيأتي بيانه بمزيد من التفصيل في السورة) قبل وزن الأعمال والجزاء في الآخرة. هذه الآيات تواسي الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الغرض من إنزال الكتاب هو الإنذار به والتذكير، وأن أعمال الإنسان ستوزن يوم القيامة، فمنهم المفلحون ومنهم الخاسرون.
007.6.1.1.2- الآيات (10-34) التمكين في الأرض: تتحدث عن التمكين للإنسان في الأرض، لأجل محدد، بما أودع الله في هذا الكون من خصائص وموافقات تسمح بحياتهم عليها، وتتحدث عن تكريم الله لبني آدم وسجود الملائكة له. وبينت الظروف المحيطة والبيئة المناسبة التي هيئت له لأداء الطاعات، والعداوة المتربصة به لمنع تنفيذ هذه الطاعات. ومن ثم الإنذار والتحذير لبني آدم مما جرى لأبويهم من الشيطان العدو العنيد الذي أخرجهما من الجنة بإغوائه لهما. ينادي سبحانه بني آدم ليتمتعوا بالطيبات من الطعام والشراب والزينة دون إسراف، ويأمرهم بإقامة العدل لأنه موافق لفطرتهم، وينهاهم عن الفواحش التي هي منافية لفطرتهم وجبلاتهم، ويحذرهم من موالاة الشيطان حتى لا يفتنهم كما أخرج أبويهم من الجنة.
007.6.1.1.3- الآيات (35-53) إرسال الرسل، وبيان جزاء الأعمال: بعد التمكين في الأرض والتحذير من الشيطان، تعهد الله لآدم وبنيه بإرسال الرسل. وبيان جزاء الاستجابة للرسل وعدمها. وافتراق المؤمنين عن الكافرين يوم القيامة، وما يجري على الأعراف من لوم الناس بعضهم لبعض. وأن الرسل جاءتهم بالحق، وأن الجميع وجدوا ما وعدهم ربّهم حقاً.
007.6.1.1.4- الآيات (54-58) الأمر باللجوء إلى الله الخالق رب العالمين طمعاً في رحمته ورزقه، وعدم الاعتداء والإفساد في الأرض (خوفاً من عقابه): آيات الله واضحة، وسننه ثابته، أصلح الأرض للإنسان واستخلفه فيها فلا يفسدها، فإذا أحسن الإنسان الإتباع كما أمره ربّه، نال رحمته وحبه وفضله في الدارين، وإذا اعتدى وتجاوز حدود شرعه خسر في الدارين.
007.6.1.2- في ربع السورة السابق تقريباً (1-58) علمنا أن الله أرسل المرسلين منذرين ومذكّرين، وكانت النتيجة أن أكثر الناس لا يؤمنون، اتبعوا وساوس الشيطان وفتنته وغوايته، وأن كثيراً من القرى أهلكوا بسبب ظلمهم. وفي هذا الربع (59-102) سنرى بعض التطبيقات أو التجارب الحقيقية في أرض الواقع، سردت باختصار عن كيفية حصول ذلك: ماذا فعل المرسلون وكيف استقبلتهم أقوامهم وماذا كانت النتيجة:
الآيات (59-93) أمثلة وتجارب حقيقية من تاريخ الإنسان فيها أخبار خمسة أنبياء مع أقوامهم: نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب عليهم السلام، وهم يعرضون على أقوامهم حقيقة واحدة لا تتبدل: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}. وكيف أن كل القرى كذبوا، واستكبروا، وجادلوا واستنكروا إفراد الله سبحانه بالألوهية، والعبادة، وإرساله بشراً من الناس بالرسالة، أو أن يتعرض الدين لشؤون الحياة الدنيا، أو يتحكم في معاملاتهم، وغيره، فلم يقدروا نصح رسولهم لهم، ولا تدبروا عاقبة أمرهم. الآيات (94-102) سنة الله في المكذبين الكافرين: يأخذهم تعالى أولا بالضراء والبأساء، لعلهم يرجعون. فإذا لم يردعهم البأس وكلهم إلى الرخاء، وهو أشد فتنة من البأس، حتى تلتبس عليهم سنة الله، ولا ينتبهوا لها. ثم يأخذهم بعد ذلك بغتة وهم لا يشعرون. أي كانت النتيجة أن القرى ما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب طغيانهم وتكذيبهم واستكبارهم.
007.6.1.3- الآيات (103-171) تتضمّن هذه الآيات المزيد من التفصيل عن أن القرى ما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل، وعن أن أكثرهم لا عهد لهم وأن أكثرهم فاسقين، وفيها نماذج من أعمال بني إسرائيل في عهد موسى وبعده: ظلمهم لأنفسهم، بالمعصية عن أمر الله واتخاذهم دينهم لهواً ولعباً وانشغالهم بالدنيا عن الآخرة تكذيبهم واستكبارهم. وهي مقسومة إلى قسمين القسم الأول في الآيات (103-137) قصة موسى مع فرعون وملئه، وكيف أنه سبحانه أورث بني إسرائيل الذين آمنوا مشارق الأرض ومغاربها، وأهلك قوم فرعون لتكذيبهم وعدم إيمانهم. والقسم الثاني في الآيات (138-171) قصة موسى مع قومه بني إسرائيل، وكيف أنهم بعد أن أنجاهم الله من البلاء العظيم، وجاءتهم مواعظه وآياته، فبدلاً من أن يؤمنوا فتشملهم رحمته الواسعة، اتبعوا سبيل الغيّ، أشركوا به واتخذوا العجل وبدلوا كلامه سبحانه وعتوا عن أمره، فقطعهم في الأرض وسلط عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة.
007.6.1.4- الآيات (172-198) بعد أخذ الميثاق والعهد على بني إسرائيل، يذكر سبحانه العهد المأخوذ على فطرة البشر أجمعين. فليس لأحد عذر أو حجة بأن يشرك بعد أن شهد على نفسه بأن الله ربه، وليس لهم حجة في إتباعهم ما وجدوا عليه آباءهم من الشرك، لأنه قد يعصي الآباء كما عصى الأب الأول آدم عليه السلام، وعصى الكثير غيره. تضرب الآيات مثلاً قبيحاً على رجل من بني إسرائيل آتاه الله الحجج والأدلّة فكفر بها بعد أن علمها. هذا المثل برهان حقيقي على أن الهداية بيده سبحانه، وقد خلق للنار أناس كالبهائم لا يستعملون عقولهم ولا أبصارهم ولا آذانهم. الله له الأسماء الحسنى، وقد خلق أيضاً أناس يستجيبون للحق وبه يعدلون. فهو سبحانه يستدرج الذين كذبوا: أولم يتفكروا وقد جاءهم نذير مبين، أولم ينظروا بآيات الله وملكه العظيم، كل ما فعلوه بعدها أنهم سألوا عن وقت قيام الساعة، وبقوا على ضلالهم بأن جعلوا لله الشركاء الذين لا يقدرون على خلق شيء بل هم مخلوقين، والذين لا يستطيعون نصرهم ولا أنفسهم ينصرون.
الآيات (199-206) ومن هنا إلى ختام السورة يتجه السياق إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته كما كان افتتاحها خطاباً لهم، بالأمر بقبول اليسر من أخلاق الناس وأن لا يشقوا عليهم حتى لا ينفروا، والأمر بكل قول حسن وفعل جميل، والإعراض عن منازعة الجهلة، والاستعاذة بالله من الشيطان ووسوسته وغوايته، والأمر بالإنصات إلى القرآن لأن فيه النذر والذكر والرحمة رجاء أن يرحمكم الله، واذكروا لله خوفاً وتذللاً وابقوا على صلة دائمة به {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)}.
007.6.2- بعض التفاصيل عن السورة باعتبار القصص الموجودة فيها:
السورة تأمر باتباع ما أنزل الله في كتابه، وقد مكن للناس في الأرض، وعندما يأمر سبحانه فإن كل مخلوقاته تطيع فسجدت الملائكة إلا إبليس تكبّر فنال من الله عكس مراده بأن جعله من الصاغرين، وحينما عصى الإنسان أمْرَ ربه سعياً وراء الملك والخلود نال عكس مراده بأن أهبطه سبحانه إلى الأرض ليموت فيها. كل القصص والتعقيبات تبين وجوب الطاعة والإتباع. وأن كل شيء بقدر الله. وتفصّل في خلق الإنسان وإرسال الرسل وإهلاك القرون السابقة.
وهي أول سورة عرضت للتفصيل في قصص الأنبياء: قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب. وقد اختارت مرحلة واحدة متأخرة من حياتهم فيها ما يتعلق بالرسالة والدعوة إلى اتباع التنزيل، لتبين ما انتهت إليه الدعوة من نجاة المؤمنين وهلاك المكذبين. ثم تركز تركيزاً شديداً على قصة قوم موسى. ومهمتها كمهمة السورة المكية تقرير أركان الإيمان بالله عزّ وجل من توحيد الله جل وعلا وتقرير البعث والجزاء وتقرير الوحي والرسالة والقضاء والقدر.
007.6.2.1- بملاحظة ما ورد في قصص الأنبياء التي تضمنتها السورة في الآيات (59-93، 103-157، 159-171)، المجموع = 103 آية أي نصف عدد آيات السورة، نجد أنه سبحانه يرسل رسله مذكرين ومنذرين إلى كلّ الأمم، وأن جميع الرسل دعوا أقوامهم إلى العبادة {اعبدوا الله}، وبينوا لهم أن الله واحد لا شريك له {ما لكم من إله غيره}، وخوّفوهم من عذاب الله في الدنيا ويوم القيامة، وكذلك رغبوهم برحمته وإنعامه عليهم في الدارين، إن هم أطاعوا، وأن هذا هو قدرهم الذي لا يملكون أن يخرجوا عنه فهم إن خرجوا من قدره بأن يكونوا طائعين، دخلوا في قدره بأن يكونوا عاصين، وكله بما أعطاهم من النعم ومكّن لهم على هذه الأرض، فلولا خلقه لهم على هذه الهيئة التي هم عليها وتسخيره لهم المخلوقات وعطائه الغير منقطع لما عاشوا على هذه الأرض، ولولا تصريحه لهم بالاختيار لما استكبروا عن عبادته ولما اختاروا عصيانه. فهذه إذاً هي أركان الإيمان التي دعت إليها سورة الأنعام وهي أيضاً دعوة إلى اتباع ما جاءت به الرسل من الأمر بالعبادة وتطبيق دينه وهو الإسلام بعباداته وتشريعاته كما جاء تفصيله في السور السابقة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة.
007.6.2.2- وبملاحظة ما ورد في التعقيبات نجد أنها تدعوا إلى الإيمان بكل أركانه: أي الإيمان بالله في 7 آيات (54، 57، 58، 180، 189، 196، 197) وملائكته في 3 آيات (11، 37، 206) وكتبه في 3 آيات (2، 52، 204) ورسله في 7 آيات (6، 7، 35، 158، 181، 184، 188) واليوم الآخر في 21 آية (8، 9، 18، 34، 36، 38-51، 185، 187) وتركز على موضوع القدر في 22 آية (10، 12-17، 19-25، 172-178، 186). وهذه تعقيبات تتناسب مع مواضيع القصص وتكرار يؤكد مقصدها، وهي أيضاً نفس مواضيع سورة الأنعام. كذلك تركز على ضرورة التضرع إلى الله والتوجه إليه بالدعاء والعبادة، والعبادات هنا مذكورة بمفهومها العام من ضرورة الإتباع والذكر بالغدو والآصال والدعاء، وتشمل أركان الإسلام، والتشريعات لإصلاح الحياة والتمكين فيها في 15 آية (3، 26-33، 55، 56، 199-201، 205) وهو موضوع سور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة. ثم بيان سنة الله الثابتة في تصحيح انحراف الناس، وإعادتهم إلى ميثاقهم بأن الله ربهم، وإلى سابق عهدهم وفطرتهم على الإيمان والعبادة، وأن الإيمان والعبادة نعمة من الله والتكذيب هلاك وخسارة، يرسل إليهم الرسل، فيبتليهم بالبأساء والضراء إذا استكبروا على رسله ورفضوا دينه، ثم يفتح عليهم خيراته إملاءاً واستدراجاً، في 9 آيات (94-100، 182، 183). وأن أكثر الناس معاندون فسقة عن طاعة الله وامتثال أمره في 15 آية (4، 5، 53، 101، 102، 179، 190-195، 198، 202، 203). ومجموع هذه الآيات مع الآية الأولى = 103 آية أي نصف عدد آيات السورة.
007.6.2.3- فهذه السورة بشقيها القصص (103 آيات) والتعقيبات (103 آيات) هي بمثابة الشرح التطبيقي العملي الحقيقي بما حصل لأدم عليه السلام في الجنة حين خالف أمر ربّه، وبما حصل في حياة الأمم السابقة حينما نزلت عليها رسالة السماء تأمرها بالإيمان والإسلام، كيف استقبلت هذه الأمم الرسالة وماذا ترتب من الثواب أو العقاب على أخذهم لها سواء بالقبول أو بالتكذيب. ويستخلص منه وجوب الطاعة واتباع أوامر السماء لأن فيه سعادة الإنسان وفوزه في الدارين، لكن الإنسان أثبت عبر تاريخه، بأنه كثير النسيان يكرر نفس الأخطاء، ظالم لنفسه متبع للشيطان راكض وراء شهواته، قصير النظر لا يرى الآيات، لاعب في أمور الجد، وجادّ في أمر اللعب بجري وراء الدنيا ووراء شهواته، يصدّق وسوسة الشيطان ويصغي لغوايته {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)}.
007.7 الشكل العام وسياق السورة:
007.7.1- إسم السورة الأعراف:
007.7.1.1- سميت هذه السورة بسورة الأعراف لورود ذكر اسم الأعراف فيها وهو سور مضروب بين الجنة والنار يحول بين أهلهما. روى ابن جرير عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقعدت بهم سيئاتهم عن دخول الجنة، وتخلفت بهم حسناتهم عن دخول النار فوقفوا هنالك على السور حتى يقضي الله بينهم. والعرف: هو الخير المعروف الواضح الذي لا يحتاج إلى مناقشة وجدال، والذي تلتقي عليه الفطر السليمة والنفوس المستقيمة.
007.7.1.2- الأعراف هو الإطار العام لأحداث السورة. وهم الرجال الذين يقفون على الحاجز بين الجنة والنار، ينتظرون فضل الله ويرجون رحمته، يطمعون بجنته ويدعونه تجنيبهم عذابه. على هذا الحاجز بانت لهم الحقيقة على طبيعتها، يرون وعد الله الحق في الآخرة ويعرفون ما كان في الدنيا، ويرون المعذبين المنسيين في النار، ويطمعون بدخول الجنة. هذا الموقف يقفه الناس الآن في الدنيا أمام كتاب الله (القرآن) يعرّفهم الحقيقة وما هم مقبلين عليه. يعرفون منه بداية خلقهم، بل وقبل البداية عندما قال للملائكة {إني جاعل في الأرض خليفة (30)} البقرة، ثمّ أمره لهم بالسجود وظهور عداوة إبليس {ولقد خلقناكم، ثم صورناكم، ثم قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم. فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين (11)}. فتوعد اللعين إبليس آدم بالغواية، وأخرجه من الجنة {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)}. أمة محمد صلى الله عليه وسلّم ترقب من خلال القرآن أعمال الأمم السابقة مؤمنهم وكافرهم. ترقب الأحداث عبر التاريخ، وكأنها دروس عمليّة تعرّف الناس بمصائرهم سواء العابدين أو الكافرين وسواء من أرسل إليهم أم المرسلين.
007.7.1.3- اسم السورة يدل على محتوياتها (مقصدها وموضوعاتها). ففيها تعريف الإنسان على سبب وجود على الأرض وتمكينه فيها. فقد ساقت له قصة الإنسان من بداية خلقه وأمر الملائكة بالسجود له ووجوده في الجنة، ثم هبوطه إلى الأرض. ثم تعريف الناس بواجبهم، وهو العبادة: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (59)}. ومواقفهم من الرسالة والمرسلين، وكفر أكثرهم وتطاولهم على المرسلين، مثل: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60)}، {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ (66)}. ومصائر الأمم، بنجاة المؤمنين وهلاك المكذبين، مثل: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا (64)}، {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا (72)}. وتعريف بأسباب هلاك الأمم {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)}، وبأسباب النعيم {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (96)}. وفيها تعريف بأن القرآن أنزل هدى ورحمة لقوم يؤمنون {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}. وتعريف بطبيعة الناس مؤمنهم وكافرهم، أي طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر ممثلة في شخوص القصة، وتعريف بالعدو اللدود وهو الشيطان {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)}.
007.7.2- سياق السورة باعتبار موضوعاتها الرئيسية:
تقديم: باختصار فإن هذه السورة تعرّف الإنسان على أصل وجوده، وعلى مقصد وجوده، وعلى نهايته أو مصيره. بأسلوب قصصي يسرد تاريخ الإنسان الحقيقي من لدن خلق آدم عليه السلام إلى خلق خير الأمم، الأمة الخاتمة ورسولها الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، إلى قيام الساعة، إلى دخول الأمم في الجنة أو النار. وقد اختفى الزمان، فالله سبحانه لا يحده لا زمان ولا مكان، كل شيء بسّطه وعرّف عليه الإنسان وكأنه شيء انتهى أو أمر انقضى وكان.
وقد أوضحت كما سيأتي بيانه دين الله كاملاً بشقيه الإيماني: بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء خيره وشره. والعملي ممثل بالصلاة في المساجد والدعاء والمعاملات. وبينت أعداء الإنسان الخارجية وهي شياطين الإنس والجن؛ والداخلية وهي النفس وما جبلت عليه من الفساد والظلم والكبر والتكذيب وغيره. وبينت أسباب هلاك الأمم، وأهمها وسوسة الشيطان اللعين وتسلطه بالفتن على ذرية آدم، ثم تقليدهم بالفواحش ما وجدوا عليه آباءهم. وبينت عاقبة المؤمنين والمكذبين. وهي بهذا تشبه في مكوناتها سورة الأنعام مع فارق أنها هنا اعتمدت في بيانها على قصص حقيقية من تاريخ الإنسان ونماذج من نعمة الوحي، والهدى والبصائر من الله وكيف كان موقف الإنسان من هذا الوحي، وردود أفعاله وتجاوبه مع هذه الرحمات من ربه، وهناك في الأنعام اعتمدت على بيان صاحب الحق وهو يصدع بالحق وبيان النعم والآيات. وموضوعاتها الرئيسية كما يلي:
007.7.2.1- الناس على الأرض مبتلون باتباع التنزيل اختياراً: أي بتقوى الله وطاعته ومعصية الشيطان: تعرف السورة الإنسان على نفسه وعلى عدوه إبليس وعلى أصله وعلى أن الله خالقه. وتعرفه على الملائكة وعلى الدنيا وعلى الآخرة وعلى كل ما يحيط به من مخلوقات. تعرفه على نفسه من البدء، منذ أن خلقه الله ثم صوّره ثم أمر الملائكة أن يسجدوا له، ثم ظهور العدو إبليس، وإنظاره إلى يوم يبعثون. وأن الله سبحانه أسكن آدم وزوجه الجنة. فوسوس لهما الشيطان فأخرجهما من الجنة بمعصية ربهما بعد أن نهاهما، وقال له أن الشيطان لهما عدو مبين. فأهبطهما الله إلى الأرض بعضهم لبعض عدو، وقد توعد الشيطان أن يغوي الإنسان، وأن يفتنه، وأن يقعد له صراط الله المستقيم.
لقد غفر الله للإنسان معصيته، وقال له وللشيطان {اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين (24)}؛ ولقد مكن الله للإنسان في الأرض وجعل له فيها معايش؛ وأرسل إليه الرسل؛ وأنزل الكتب تعرفه على نفسه وعلى ربه، وعلى أن له دور ووظيفة في هذه الحياة، وأن الله أخذ عليه وعلى ذريته العهد، وأن معه شيطان يريد أن يغويه، فلا يركن إلى الشيطان، عدوه الذي أخرجه من الجنة؛ ولقد أنزل سبحانه إلى رسوله كتاب لينذر به المؤمنين، {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}؛ وقد فصله لهم {على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون (52)}، يدعوهم فيه إلى اتباع الوحي والهدى: {قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي، هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (203)}.
007.7.2.2- اعتمدت السورة على سرد القصص التي تثبت عناية الله وتكريمه للإنسان بالخلق والتصوير والتمكين، وأمر الملائكة بالسجود له. وأنه أرسل الرسل وأنزل الكتب التي تعرّف الناس على الغرض من وجودهم وهو العبادة لله وحده. وأن هناك آخرة وحساب على الأعمال. وأنه يترتب على الأعمال فلاح أو خسارة، في الدنيا والآخرة. وأن لله قضاء وقدر. وأن الله أعذر الناس وأقام عليهم الحجة، وأن الكفر والفساد متأصل في اصحاب النار. وأنه دعاهم إلى الاعتبار بهلاك من سبقهم من الأمم وأن أكثرهم كافرين. وأنه أشهدهم على أنفسهم بالإيمان وبأنه ربهم.
سياق السورة يعتمد على القصة كوسيلة لتسهيل فهم موضوعاتها: نفس موضوع الإيمان والإتباع المذكور في الفقرات السابقة واللاحقة، وما تضمنته من بيان أسباب الكفر والمعصية وبيان أن الإيمان نعمة وفوز وأن الكفر عذاب وخسارة. يتكرر في سياق السورة على شكل قصص حقيقية من الماضي والحاضر والمستقبل. وتذكّر هذه القصص الإنسان وتعرفه بما شهد به على نفسه بأن يعبد الله لا يشرك به شيئاً. ثم ما حصل لآدم حين خلقه الله سبحانه، ومكوثه في الجنة وخروجه منها إلى الأرض، والسبب في ذلك. ثم وأن الله أرسل إلى ذريته المرسلين، وأنزل عليهم الكتب هدى ورحمة، وفصل لهم الآيات، وأنه ابتلاهم بالحسنات والسيئات. ثم نجاة المؤمنين وعقاب الكافرين في الدنيا قبل يوم القيامة.
007.7.2.2.1- فتروي قصة أخذ العهد على بني آدم بالإيمان بالله وحده لا شريك له، ثم غفلتهم، وضرب الأمثال على كفرهم، ثم تفصيل الآيات لعلهم يرجعون إلى عهدهم، وقص القصص لعلهم يتفكرون. 8 آيات (172-179).
007.7.2.2.2- وقصة الشيطان وتكبره عن السجود لآدم، وعداوته وإغوائه له، ثم هبوطهما إلى الأرض 15 آية (11-25)، ويقص سبحانه القصص التي تصور مصير وأحوال المؤمنين والكافرين يوم القيامة 16 آية (38-53)، المجموع = 31 آية.
007.7.2.2.3- وقصص نوح عليه السلام 6 آيات (59-64)، هود عليه السلام 8 آيات (65-72)، صالح عليه السلام 7 آيات (73-79)، لوط عليه السلام 5 آيات (80-84)، شعيب عليه السلام 9 آيات (85-93)، موسى عليه السلام 68 آية (103-157، 159-171)، المجموع = 103 آيات أي نصف عدد آيات السورة.
007.7.2.3- تقول السورة أن الغرض من هذا الكتاب هو الإنذار والتذكرة، وأن هناك حساب وميزان. هذه دار ابتلاء، وكل المخلوقات أطاعت ربها وسبحت بحمده، وعلى الإنسان أن يفعل كذلك، فلا تتحرج (تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم) فأنت منذر للمخالفين من سرعة العقاب ومبشر للمؤمنين بالمغفرة والرحمة (على ما أشار إليه آخر سورة الأنعام). فليس لأحد أن يستكبر عن عبادة ربه كما فعل اللعين إبليس، بل {يسبحونه وله يسجدون (206)}، ولا كما فعلت الأمم الأخرى التي كذبت فأهلكها سبحانه، وكما بينت قصص الأمم المذكورة في هذه السورة. ففي السورة بيان نماذج من الهدى إلى الأمم، ومواقف هذه الأمم من الهدى، وما عوقبت به جزاء أعمالها. فالناس مأمورون باتباع التنزيل من الكتاب والسنه، وبامتثال ما فيهما من الأوامر واجتناب النواهي التي هي لمصلحة الإنسان وتناسب فطرته التي فطره الله عليها، وأن وجود الإنسان له غرض محدد وهو الابتلاء بالطاعة والإتباع.
007.7.2.4- الدعوة إلى الإيمان والإتباع: تبين السورة وجوب طاعة أمر الله واتباع دينه بعبادته والتزام شرعه في 15 آية (1-9، 54-58، 158)، وأن سبب خروج بني آدم من الجنّة إلى الأرض هو مخالفتهم أمره، واتباعهم غواية الشيطان، وتحذيرهم من فتنة الشيطان في 13 آية (10، 26-37). ثم بيان أن الإيمان نعمة والتكذيب خسارة في 9 آيات (94-102)، وبيان توعد الله للمكذبين، وتوليه سبحانه للصالحين في 27 آية (180-206). مجموع هذه الآيات = 64 آية، أي قريباً من ثلث عدد آياتها. ومن ضمن هذه الآيات نجد أن أغلبها جاءت على شكل قصص وآيات، كما يلي:
– قصص عذاب الآخرة في الآيات (5-9) = 5 آيات.
– قصة هبوط بني آدم إلى الأرض واقترافهم الفواحش في الآيات (10، 26-37) = 13 آية.
– آيات الله في السماوات والأرض: (54، 58، 180، 185) = 4 آيات.
– سؤالهم عن الساعة وقصة خلق الإنسان ثم شركهم بالله في الآيات (186-198) = 13 آية.
007.7.2.4.1- في الآية الثالثة يأمر سبحانه الناس باتباع ما جاء في الكتاب، وفي سياق السورة يأمرهم على لسان رسله بأن {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.
هذا ما قالته جميع الرسل بلا استثناء، خوّفت به الكافرين وذكرت به المؤمنين. ابتلى سبحانه الناس بالسرّاء والضراء لكي يطيعوا ويتبعوا قال تعالى: {أخذنا أهلها بالسرّاء والضراء لعلهم يضّرّعون (94)}. لكن يبدو أن الإنسان في الغالب لا يستعمل ما وهبه الله من نعمة السمع والبصر والعقل، قال تعالى: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)}، {وإن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)}، لقد زين له الشيطان الباطل فجعل لله الشركاء بغير حق قال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)}. هذا ما تقصد هذه السورة لإيصاله: أي لا بد للإنسان من سماع كلام ربه ومن استخدام عقله وسمعه وبصره حتى يهتدي إلى رحمة ربه {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون (204)}، فكل المخلوقات تسبح بحمده ربها وتسجد له ولا تتكبر عن عبادته.
ليس للإنسان خيار غير هذا، عليه أن يأتي ربه طائعاً عابداً موحداً متّبعا دينه كما أمر سبحانه {طوعاً أو كرها (11)} فصلت، يجب أن يتبع فهي إرادة الخالق الذي أمره {إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون (82)} يس، الأرض أرضه والسماء سماءه والإنسان خلق من مخلوقاته، وكل شيء هو ربه ومليكه {له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين (54)}، ليس للإنسان من خيار سوى اتباع الأوامر، من يجرؤ على معصية الله إلا الجاهل الظالم لنفسه {إنه كان ظلوماً جهولاً (72)} الأحزاب. أمام الإنسان خيارين لا ثالث لهما إما الإتباع وإما الهلاك، لأن الإتباع موافق للفطرة فهو الدين الحنيف الذي فطر الناس عليه {فطرة الله التي فطر الله الناس عليها، لا تبديل لخلق الله (30)} الروم، وفي عدم الإتباع تبديل للفطرة وهلاكها وتدميرها.
خاتمة: السورة أيضاً توضح بما لا لبس فيه أن عقاب الله الناس وثوابه لهم يكون في الدارين. وأنه سبحانه شديد العقاب لمن استحقه بسبب كفره ومعصيته، وإنه لغفور ذنوب التائبين رحيم بهم. وأنه يختبر هؤلاء بالرخاء بالعيش والسعة في الرزق، ويختبرهم أيضاً بالشدة في العيش والمصائب والرزايا، رجاء أن يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا من معاصيه. كما تبين أن من أسباب البعد عن الإيمان اتباع الشياطين {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)}، وتقليد الآباء {قالوا وجدنا عليها آباءنا (28)}، والكاذبون أو المكذبون {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِه (37)}، والذين يبغونها عوجاً {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً (45)}، والتكبر، فالذين يتكبرون لا يؤمنون {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون (146)}، واتباع الهوى {أخلد إلى الأرض واتبع هواه (176)}. وأن من يوفقه الله للإيمان به وطاعته فهو الموفَّق، ومن يخذله فلم يوفقه فهو الخاسر الهالك، فالهداية والإضلال من الله وحده، الآيات (43، 54، 155، 177، 178، 186، 193).
007.7.3- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:
يختلف عدد الآيات هنا عن عددها أعلاه في الشرح عن سياق السورة، والسبب وجود بعض الآيات المختلفة في نفس السياق، أو أن الآية قد تحتوي على أكثر من موضوع في نفس الوقت فتصنف هنا أو هناك. فأبقيناها في سياقها الذي قد يتضمن أيضاً موضوعات أخرى.
007.7.3.1- آيات القصص: (4، 10-37، 59-198) = 169 آية.
007.7.3.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (5-9، 38-53) = 21 آية.
007.7.3.4- آيات الله في السماوات والأرض في الآيات: (54-58) = 5 آيات.
007.7.4- رسالة واحدة من إله واحد بدين ورسول واحد إلى أمة واحدة: الأسلوب الذي اعتمدته سورة الأعراف في سرد القصص وتكرار نفس المواقف عند تكرار نفس الأحداث يدل على أن الله الخالق والمدبر لهذا الوجود واحد وأن دينه واحد، وعلى أن المخاطبين برسالة السماء هم نوع واحد من المخلوقات وصفاتهم واحدة وطريقة تعاملهم مع الرسالة والمرسلين من ربهم واحدة وأن المصير الذي يلقاه المؤمنون منهم والمكذبون واحد لكل منهما.
جميع الأنبياء والمرسلين جاؤوا برسالة واحدة، تدل على وحدة الإله ووحدة الدين ووحدة الرسالة. فنوح عليه السلام قال لقومه: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}، وكذلك قال النبيين هود وصالح وشعيب عليهم السلام من بعده قالوا جميعهم نفس الرسالة ونفس الكلمات، وكذلك كانت رسالة موسى عليه السلام، ورسالة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم دعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له. فالمتأمل لا يرى إلا إله واحد ورسول واحد برسالة واحدة إلى أمة واحدة لا تتغير على مدى مراحل التاريخ والأزمان وتغير الأجيال، يختار سبحانه رسولاً ليقول لقومه نفس الكلمات، ثم يمضي ويأتي رسول بعده فيقول نفس الكلمات، ثم يمضي ويأتي رسول بعده، وهكذا.
كذلك المخاطبين كلهم كذّبوا رسلهم إلا القليل منهم ممن آمنوا. وكلهم أجابوا رسولهم واتهموه بما عندهم هم من العيوب. فقوم نوح قالوا: {إنا لنراك في ضلال مبين (60)}، في حين أنهم كانوا هم الضالين. وقوم عاد قالوا: {إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين (66)} بينما هم كانوا السفهاء الكاذبين. وقوم صالح قالوا: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)} فاستكبروا وغرهم نحتهم من الجبال بيوتاً ظناً منهم بأنها مانعتهم من الله. وقوم لوط فلم تصرح السورة بأنه أمرهم بالعبادة فهم في النجاسة يحتاجون إلى التطهير أولاً. وقوم شعيب قالوا: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا (88)} وكيف يعود لملّتهم الباطلة يظلمون الناس أشيائهم وينقصونهم حقوقهم.
ثم أن النهاية كانت واحدة تتمثل بنجاة الرسول والقلة القليلة الذين آمنوا معه، وهلاك المكذبين. فنوح عليه السلام: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا (64)}، وهود عليه السلام: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا (72)}، وصالح عليه السلام: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)}، ولوط عليه السلام: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)}، وشعيب عليه السلام: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)}.
في هذه القصص المختصرة، التي عرفتنا على أن المرسل واحد، والرسالة واحدة، وأن المرسل إليهم هم نفسهم على امتداد التاريخ وتطاول الزمان، وأن موقفهم من الرسالة واحد، وأن المصير الذي آلوا إليه واحد. ثم في قصص موسى عليه السلام المفصلة مع فرعون وملئه ثم مع بني إسرائيل، وما فعل الله لهم وبهم. في هذه القصص تثبيتاً وتسلية للأمة الخاتمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، حتى لا يفتنهم كثرة المكذبين وقلّة المؤمنين، فهم كذلك عبر كل مراحل التاريخ، وأن الإنسان هو نفس الإنسان عبر العصور لا فرق بين إنسان قديم أو إنسان حديث، وقد كذبت الرسل من قبلهم وتطاولت عليهم أقوامهم، ثم على حتمية انتصار الدين وهلاك المكذبين في النهاية.
007.7.5- الدين هو السبب في جمع الناس ونهوضهم بالعلم وبناء الحضارات. وأن الإنسان من طبعه الفساد، وتاريخ الإنسان وهو بعيد عن الدين كله إفساد وكفر وتكذيب:
القصص التي في السورة تؤكد أن إيمان الناس هو سبب نهضتهم وبناء حضارتهم وأن كفرهم وتكذيبهم هو السبب في هلاكهم وهلاك حضارتهم. وأن تاريخ الإنسان يمر بأطوار صاعدة وأخرى هابطة، تدور كدوران العجلة، حين يؤمن بربه ويطيع أوامره ويتمسك بالتنزيل يرتفع شأنه حتى يصل قمة النعيم والحضارة، وحين يكفر ويتخذ الشياطين أولياء تهبط به ذنوبه إلى الحضيض والهلاك. تاريخ أمة محمد صلى الله عليه وسلم برهن على أن دين الإسلام حين نزل على القبائل العربية التي لم تكن تملك العلم ولا الحضارة، بل كانت قبائل بدويّة أميّة متفرقه يحكمها الجهل والتفرق والحروب المزمنة وغيره، استطاع في سنوات قليلة من إيمانهم بالله وقبولهم دينه واتباعهم لتعاليمه وشرائعه أن يوحدهم ويجعل منهم أمة واحدة امتلكت العلوم والمعرفة وصنعت أعظم وأطول حضارة عرفها التاريخ. قال قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله في قوله تعالى: {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض (26)} الأنفال، قال: كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً وأشقاه عيشاً وأجوعه بطوناً وأعراه جلوداً وأبينه ضلالاً، من عاش منهم عاش شقياً، ومن مات منهم ردى في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلاً منهم حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد ووسع به في الرزق وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله.
ولا شك بأن سنة الله الثابتة هذه تنطبق على الحضارات الأخرى وعلى كل الأمم التي سبقت أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فحضارات عظيمة مثل التي ذكرتها السورة، ولا نزال نرى آثارها إلى أيامنا هذه، ونحن نشاهد مساكنهم وأبوابهم وطرقهم فيما أحدثوه من البنيان والهياكل والديار، كديار ثمود المنحوتة في الصلد من الصخر، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى أنها ديارهم ونهى عن استعمال مياههم وطرح ما عجن به وأهرق. وقال: “لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم”. وكذلك أرض عاد ومصر والشام وسائر بقاع الأرض شرقاً وغرباً ففيها الحضارات الكبيرة والصغيرة. وقد ذكر ابن خلدون في تاريخه عن حضارة الفرس، فقال: وانظر بالمشاهدة إيوان كسرى وما اقتدر فيه الفرس حتى إنه عزم الرشيد على هدمه وتخريبه فتكاءد عنه، وشرع فيه ثم أدركه العجز، وقصة استشارته ليحيى بن خالد في شأنه معروفة. فانظر كيف تقتدر دولة على بناء لا تستطيع أخرى على هدمه مع بون ما بين الهدم والبناء في السهولة تعرف من ذلك بون ما بين الدولتين. وانظر إلى بلاط الوليد بدمشق وجامع بني أمية بقرطبة والقنطرة التي على واديها، وكذلك بناء الحنايا لجلب الماء إلى قرطاجنة في القناة الراكبة عليها، وآثار شرشال بالمغرب والأهرام بمصر وكثير من هذه الآثار الماثلة للعيان، تعلم منه اختلاف الدول في القوة والضعف، انتهى.
فلا بد أن تكون تلك الحضارات العظيمة السابقة ابتدأت بأمة مؤمنة، قد جمعها الله على الدين، وعلمها العلوم، وحثها على العمل، حتى توصلت إلى ما وصلت إليه من التقدم. فالحضارة الفرعونية التي بنت الأهرامات العجيبة نشأت في أحضان رسالات السماء التي كانت تنزل على الأمم، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِير (24)} فاطر، ومن المعلوم أن النبي يوسف عليه السلام هو من جاء ببني إسرائيل من بيت المقدس إلى مصر، وأن موسى عليه السلام هو من أعادهم إلى بيت المقدس، فالحضارة الفرعونية نشأت في أحضان رسالات السماء، وكانت فيها رسالات ودين انتهت بالكفر والشرك وادعاء الألوهية. وهذه السورة تقرر هذه الحقيقة التي تشير إلى أن كل نبي كان يذكر لقومه بأنه كان قبله نبي آخر، وأنهم خلفاء لتلك الأمم البائدة. فقوم عاد كانوا خلفاء قوم نوح، وزادهم الله على ما كان عند قوم نوح قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً (69)}. وثمود قوم صالح كانوا خلفاء قوم عاد، وبوّأهم الله في الأرض وزادهم على ما كان عند قوم عاد قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً (74)}. وهكذا فالقوم المؤمنون يأتون خلفاء للقوم الهالكون. هذه سنة الله في الأمم، وهذا هو الحق وهو ما تقرره السورة. فالحضارات تبتدئ بأمة مؤمنة جمعها الله على الدين وعلمها العلوم، التي منها تعلمت كيف تنظم حياتها وتبني المساكن والمجتمعات، ثم تترعرع الحضارة وتقوم على أكتاف هؤلاء المؤمنين، والذين سيأخذ إيمانهم واتباعهم لدينهم بالتناقص إلى أن يكفروا ويشركوا بسبب اتباعهم لشهواتهم، وبسبب تربص الشيطان بهم وقعوده لهم صراط الله المستقيم {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيم (16)}. وهو ما قررته أيضاً السورة بأنه لكل أمة أجل قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34)}، وأن قدوم هذا الأجل له سببين بينتهما الآيتين السابقتين لهذه الآية، الأول: تحريم ما أحله الله من الزينة والطيبات من الرزق كما في الآية (32)، والثاني: إتيان ما حرم الله من الفواحش والإثم والبغي والشرك والقول على الله بغير علم كما في الآية (33).
وتاريخ أمة محمد صلى الله عليه وسلم برهن على أن دين الله الإسلام، جعل من الأمة الخاتمة خلفاء لمن سبقهم من الأمم اليهودية والنصرانية، وقد توصلوا في العلوم إلى اكتشافات واختراعات لم يسبقهم إليها أحد، مثل اكتشاف رقم الصفر وعلوم الجبر في الرياضيات، والعمران مثل قصر الحمراء في إسبانيا الذي يعتبر من عجائب الدنيا في التصميم والعمارة، وغيره من المساجد والمباني في تركيا، وكذلك غيره من المخترعات مثل اكتشاف الشراع المثلث الشكل لتوجيه القوارب بالرياح، ومثل صناعة الورق، ومثل وتركيب الأدوية والصيدلة والطب، إلخ.
صحيح أن الأمم الأخرى سبقت المسلمين في العلوم والحضارة في الوقت الحاضر، لأسباب معروفة لا تخفى على أحد. وبسبب ما يبذله ويحيكه لهم شياطين الإنس والجن لصرفهم عن دينهم، وبسبب اتباعهم لشهواتهم. إلا أن هذه مرحلة مؤقتة لأن هذه الأمة، لن تهلك أو تستأصل كما هلكت الأمم السابقة، فهي خاتمة الأمم، ولأن الدين لا يزال موجوداً، فلن يضيع كما ضاعت الديانات السابقة، فقد تكفل الله العليم الحكيم بحفظه وحفظ قرآنه. لقد لحق بهذه الأمة الضرر في مراحل عدة من تاريخها، وذلك بحبل من الله وحبل من الناس، لكن الله اختارها لتكون خير أمة أخرجت للناس بسبب إيمانها وأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، وقد تنتقل الراية من أيدي العرب إلى أيدي المماليك أو إلى أيدي العثمانيين أو إلى أيدي غيرهم، لكن دين الله الخاتم قائم إلى يوم القيامة، وما نراه من صحوة في زماننا هذا يشهد لها العدو والصديق، هي خير دليل على عودة أمة الإسلام بدينها إلى سابق عهدها، لأن الله خالق الأرض بمنه وفضله يريد أن يرفع عنها الفساد، ويريد لها أن تبقى. قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِين (251)} البقرة.
007.7.6- بالإيمان ينال الإنسان خيري الدنيا والآخرة، وبالكفر يصير من الضالين الهالكين:
هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى فإن هذا الداء الذي يصيب الأمم، يصيب أيضاً الأفراد، وهو ما تؤكده السورة في الآية {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)}، وقد جاءت الآية في نهاية قصص الأمم التي رفعها الله بأيمانها بآياته، ثم أهلكها بانسلاخها منها، وجاءت مباشرة بعد الآية التي تبين أن بني آدم شهدوا على أنفسهم بأن الله هو ربهم. فهذا فرد من الناس (وهو رجل من بني إسرائيل واسمه بلعام) أتته آيات الله وحججه فعلمها وعمل بها فارتفع بها، أي نال خيري الدنيا والآخرة، ثم انسلخ منها، أي كفر بها ونبذها وراء ظهره، فصار من الضالين الهالكين، فصار حاله كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، بسبب مخالفته أمر ربه واتباعه غواية الشيطان.
وكثير منّا يرى مثل هذا، يحدث أمامه في حياته القصيرة، وعمره المحدود. فكم من القصص رأيناها بأعيننا، عن أناس أغناهم الله ثم دارت بهم الدوائر فصاروا فقراء، وقد أشقتهم غفلتهم في غناهم ثم ازدادوا شقاءاً بفقرهم، وكم غيرهم كانوا فقراء أخذوا بأسباب الغنى فصاروا أغنياء، نالوا خيري الدنيا والآخرة بصبرهم وشكرهم. جميع الأحداث في حياة الإنسان تحصل بأسباب مادية ملموسة نراها متوافقة مع قوانين الله الظاهرة في الأرض، كالأسباب في مثل أن نقول بأن من جد وجد ومن زرع حصد. وأسباب أخرى قدرية خفيّة تتبع قوانين الله العامة الخفية الغير مرئية للإنسان، مثل أن نقول كما جاء في الحديث بأن الله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه، أو كما في الآيات: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (96)} الأعراف، {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ (66)} المائدة، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً (10)} نوح، فنحن لا نرى يد الله القادرة وهي تعز من تشاء وتذل من تشاء، وترزق من تشاء بغير حساب لأن لهذه أسبابها العامة التي لها علاقة بتدبير الله وهي خارجة عن فهم الإنسان للأسباب المادية الظاهرة.
في الآيات (59-171) جاءت قصص الأمم التي كذبت رسلها، وفيها أمثلة سيئة عن أقوام يكذبون بآيات الله وفي الآيات (175-176) جاءت قصة هذا الذي انسلخ من آيات الله، وهو مثال سيء ونموذج عن الأفراد الذين يكذبون بآيات الله. ثم بعد هذا القصص مباشرة جاءت الآية (177) التي تؤكد سنن الله في هؤلاء المكذبين، وبأنهم كانوا هم يظلمون أنفسهم بتكذيبهم بآيات الله وحججه. ثم في الآية (178) القاعدة: بأن من يهديه الله فقد اهتدى وفاز ومن يضلله الله فقد خسر. ثم في الآية (179) أن هؤلاء مأواهم جهنم، لأنهم غافلون عن الإيمان، فقد جعل الله لهم قلوب لا يفقهون بها، وأعين لا يبصرون بها، وآذان لا يسمعون بها، فهم في هذا كالأنعام بل هم أضل، لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارّها وتتبع راعيها، وهم بخلاف ذلك.
من الفصلين (007.7.5 و 007.7.6) أعلاه، نعرف أن لله حكمة من جعل حياة الأمم تدور في دوائر تاريخية، يستبدل خلالها أقوام كفروا بآخرين آمنوا. وتتلخص الحكمة بزوال الظلم، بإهلاك الظالمين، وداوم الحياة، بإقامة دين الله وشرعه العادل، وأن الله يدفع بعض الناس ببعض حتى لا تفسد الأرض. وقد جعل سبحانه حياة الأفراد أيضاً تدور في دوائر أخرى مشابهه ليختبر بها إيمان الناس، ويتخذ منهم الشهداء، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)} آل عمران.
انظر أيضاً في كناب المقدمة المبحث 6.2.5- الاغترار بالنعمة هي من أسباب الشرك والبغي والفساد في الأرض، وبالتالي زوال النعمة وتبدّل الأحوال.
007.7.7- إيمان الأمم يمر بعدة مراحل يبدأ قوياً ثم يتراجع إلى أن يعودوا كفاراً كما بدأوا:
سينتهي الأمر بالأمم الذين آمنوا إلى الكفر، مكررين نفس أخطاء الأمم التي سبقتهم. لأن الإيمان يقوى ويضعف، وغفلة الإنسان وإعراضه عن ذكر ربه يضعف إيمانه. ثم حضور الشيطان العدو المضل المبين وكيده المتواصل لابن آدم يزين له الكفر ويبعده عن إيمانه. فالإنسان ظالم لنفسه غافل جاهل، لا يعتبر بما أصاب من سبقه من الأمم من العذاب. وسينتهي به الأمر إلى الكفر مكرراً نفس الأخطاء السابقة. {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)}.
بينت القصص الخمسة عن أقوام نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب أن الدعوة واحدة وأن الناس طبعهم واحد وأن الهلاك هو مصير الأمم الكافرة. وأن كل أمة مرّت بعدة مراحل بدأت مؤمنة ثم ضعف إيمانها ثم عادت كافره. ثم يستبدل سبحانه القوم الذين كفروا، بقوم غيرهم آمنوا. ثم أن هؤلاء المؤمنين الجدد، سيبدأ بدوره إيمانهم بالتراجع، إلى أن يصيروا كفاراً كحال من سبقهم، إلى أن يستبدل الله بهم قوماً غيرهم، وهكذا دواليك، كلما آمنت أمة ينتهي بها الحال إلى الكفر، فتستبدل بأمة مؤمنة غيرها.
ثم أتبعت هذه القصص الخمسة بقصة موسى مع فرعون وملئه، كي تعرفنا على مزيد من التفصيل حول هذه الحقيقة المثيرة للدهشة، إذ كيف يكفر المؤمنون. وهذا ما تعرفنا عليه قصة موسى مع فرعون وملأه. فقد جاءهم موسى عليه السلام بالدعوة إلى الإيمان، فآمن من آمن وهلك من هلك. اما المؤمنون الناجون من الهلاك فهم أيضاً في خطر داهم، فالشيطان يتربص بهم صراط الله المستقيم، كما تربص بأبيهم آدم من قبل وأخرجه من الجنة على الرغم من أنه كان مغموراً في نعيم الله الواسع في الجنة، وآيات الله الباهرة تحيط به من كل مكان، وقد خاطبه ربه دون وسيط بأن يسكن الجنة، وحذره وأنذره عداوة الشيطان. ولكن هيهات لآدم بغرائزه وأمانيه أن يصمد أمام الإغواء والوعود والأماني الكاذبة التي يحيكها الشيطان حوله من كل الاتجاهات. فوسوسة الشيطان شيء عظيم لن يصمد أمامها الإنسان، إلا من رحم ربي، لأن الشيطان ماكر لا يأمر مباشرة، ولا يدخل مع الإنسان في مواجهة بالحقائق، بل هو يستعمل الحيلة والخداع فهو يعلم أنه ليس على الحق. يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، سلاحه الفتن والأماني والغرور، يجرّئهم على المعصية بأن يزينها لهم، وبأنها الحق، ويمنيهم بطول الأمل والعمر المديد، وأنهم يستحقون أكثر مما يملكون. وللإمعان في الكذب والخداع يقسم لهم بالأيمان الكاذبة على أنه لهم ناصح أمين، وهو في الحقيقة كاذب مبين {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)}. إذا كان هذا حال آدم وقد عاين الآيات بنفسه، وسمع الإنذار بأذنه، فكيف سيكون الحال مع أبنائه، هذا ما تبينه لنا وتعرفنا عليه قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه، ثم من آمن من بني إسرائيل مع موسى عليه السلام.
فبعد هلاك قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، تتكرر نفس أحداث الدعوة إلى الله في قصة موسى مع فرعون وملأه، ويهلك الله قوم فرعون. وفي قصة موسى مزيد من التفصيل، فهي أيضاً نموذج متكرر لما حصل أو يحصل مع المرسلين وأقوامهم أثناء الدعوة وما بعدها. وذلك بأن الله أخذهم بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يتضرعون، ثم أرسل عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين. فلما لم يؤمنوا ولم يجد معهم هذا نفعاً، كشف سبحانه عنهم العذاب، فيبتليهم بالنعمة إلى أجل هم بالغوه، وهو لن يفيد أيضاً، إلى أن يأتيهم أجلهم بانتقام الله وإهلاكهم بعد استنفاذ كل وسائل الدعوة من ببيان الآيات والحجج والإنذار والتذكير والترغيب والترهيب. فالدعوة إلى عبادة الله تتخذ وسائل عدّة في الأمة الواحدة، ولكنها تمر بمراحل متشابهة في كل الأمم، وفيه إشارة إلى أن كل الناس متشابهون في مواقفهم من الحق وفي وسائلهم في محاربة الدعوة. ثم أن إيمان المؤمنين أول الأمر ونجاتهم ليست هي آخر المطاف، بل يليها صولات وجولات في الحرب مع الشيطان وأعوانه: وهذا ما توضّحه وتشرحه قصة موسى عليه السلام مع من آمن من بني إسرائيل.
ففي الدعوة إلى الإيمان والعبادة جاء موسى عليه السلام لفرعون وملئه بالآيات والمعجزات الدالة على الحق، فآمن من آمن مع موسى، وتحملوا الإيذاء من فرعون وملئه الذين توعدوا المؤمنين بتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم وتقتيل أبنائهم واستحياء نسائهم. فانتقم الله من عدوهم فأغرقهم سبحانه في اليم لتكذيبهم وغفلتهم عن آيات الله، ودمر ما كانوا يصنعون. ثم أورث سبحانه الذين آمنوا مشارق الأرض ومغاربها. وما أن وضعت تلك الحرب أوزارها حتى ابتدأت الحرب الأخطر مع الشيطان، والتي يعتمد فيها الشيطان على المكر والخديعة، وهي خطيرة لأنها حرب خفية، تقلب الحق باطلاً والباطل حقاً. فزيّن لهم أول ما زين أن يصنعوا إلهاً، فأطاعوه من فورهم، ونسوا أن الإله الذي أنجاهم من سوء العذاب وأهلك عدوهم في اليم، هو ليس هذا العجل الذي صنعوه بأيديهم بل هو خالقهم وخالق العجل وخالق كل شيء. ثم قيل لهم اسكنوا هذه القرية وقولوا حطة، فبدلوا قولاً غير الذي قيل لهم، فأرسل عليهم ربهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون، ثم أمرهم ربهم أن لا يعدوا في السبت، فإذا هم يعدون فيه ويتحايلون على أوامر الله ونواهيه بفسقهم، فأنجى الله الذين ينهون عن السوء وأخذ الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، فخلف من بعدهم خلف أخذوا الكتاب من أسلافهم، قرأوه علموا ما فيه من أحكام فخالفوها ابتغاء ما يعرض لهم من متاع الدنيا ومكاسبها، وقالوا سيغفر الله لنا ذنوبنا تمنياً على الله الأباطيل. وهكذا في كل معصية يرتكبونها ينالهم عقاب، وفي كل طاعة يأتونها يتغمدهم سبحانه بالثواب فهو سبحانه قريب من عباده، يبتليهم ليعودوا إليه، قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)}، يبتليهم بالمصائب ليطهرهم من المعايب، ويرغبهم بالخير والنعم وهو الغني عنهم حتى لا يقنطوا من رحمته، وهم يتبغضون إليه بالمعاصي وهم أفقر ما يكونون إليه.
إن مجرد الإيمان هو ليس كل شيء فلا بد من المحافظة على زخم هذا الإيمان، باتباع كل ما نزل من السماء. ولا بد من المحافظة على الإيمان الصحيح حتى تدوم بركات السماء، ولا بد من تقوى الله بالأعمال الصالحة حتى لا يصيبنا بأسه.
قال الإمام برهان الدين البقاعي: قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه، هي كالدليل على آيات الإجمال (في القصص الخمسة الماضية)، كما كانت القصص الماضية كالدليل على ما في أول السورة من الإجمال، فإن قصة فرعون مشتملة على الأخذ بالبأساء والضراء، ثم الإنعام بالرخاء والسرّاء، ثم الأخذ بغتة بسبب شدّة الوقوف مع الضلال بعد الكشف الشافي والبيان لما على قلوبهم من الطبع وما قادت إليه الحظوظ من الفسق.
007.7.8- تاريخ الإنسان كله إفساد وجحود وكفر وتكذيب:
من يتأمل سياق السورة سيلاحظ وجود خيط من الشرك والكفر والتكذيب والفساد ينظم آيات السورة ومواضيعها من بدايتها إلى نهايتها، وهذا الخيط تميزه الكثير من التعبيرات والتي منها ما يلي:
قليلاً ما تذكرون. إنا كنا ظالمين. كانوا بآياتنا يظلمون. قليلاً ما تشكرون. ولا تجد أكثرهم شاكرين. ظلمنا أنفسنا. جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون. وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا. أتقولون على الله مالا تعلمون. اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله. ولا تسرفوا. حرم ربي الفواحش والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا. والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها. فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته. وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين. ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار. ذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون. إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها. وكذلك نجزي المجرمين. وكذلك نجزي الظالمين. أن لعنة الله على الظالمين. الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة هم كافرون. ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين. وما كنتم تستكبرون. الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا. نسوا لقاء يومهم هذا. وما كانوا بآياتنا يجحدون. قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون. إنه لا يحب المعتدين. ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها. إنا لنراك في ضلال مبين. فكذبوه فأنجيناه. كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عمين. إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين. أجئتنا لنعبد إله واحد ونذر ما كان يعبد آباؤنا. أتجادلوني في أسماء سميتموها. الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين. ولا تعثوا في الأرض مفسدين. إنا بالذي آمنتم به كافرون. فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم. ولكن لا تحبون الناصحين. أتأتون الفاحشة. بل أنتم قوم مسرفون. أخرجوهم من قريتكم. عاقبة المجرمين. فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض. وتصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً. عاقبة المفسدين. لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك. ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق. الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين. فكيف ءاسى على قوم كافرين. ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون. القوم الخاسرون. فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين. وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين. فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين. إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم. لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين. سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم. لعلهم يذكرون. ولكن أكثرهم لا يعلمون. فما نحن لك بمؤمنين. فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين. إذا هم ينكثون. كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين. اجعل لنا إلهاً كما لهم ءالهة، قال إنكم قوم تجهلون. متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون. يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم. ولا تتبع سبيل المفسدين. الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنون بها وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين. والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم. اتخذوه وكانوا ظالمين. إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين. كانوا أنفسهم يظلمون. فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم. بما كانوا يظلمون. إذ يعدون في السبت. بما كانوا يفسقون. وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون. عتوا عما نهوا عنه. لعلهم يرجعون. أفلا تعقلون. لعلكم تتقون. فكان من الغاوين. أخلد إلى الأرض واتبع هواه. لعلهم يتفكرون. كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون. ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون. لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون. وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون. والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم. أولم يتفكروا. أولم ينظروا. ويذرهم في طغيانهم يعمهون. ولكن أكثر الناس لا يعلمون. جعلا لله شركاء فيما آتاهما. أيشركون مالا يخلق شيئاً وهم يخلقون. وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم. وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون. وأعرض عن الجاهلين. وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون.
007.7.9- السورة تحض كثيراً على الذكر والتضرع والدعاء، وأن الدعاء هو العبادة:
007.7.9.1- ابتدأت السورة بتعريف وتقرير أن القرآن نزل بقصد الإنذار، والتذكير بالعهد الذي قطعه الإنسان على نفسه باتباع دين الله وعدم اتخاذ الأولياء من دونه. وتقرر أيضاً بأن الإنسان كثير الغفلة، قليل التذكر لهذا العهد الذي شهد به على نفسه، قال تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين (172)}. واختتمت بالتعريف بأن الوحي هو بصائر وهدى ورحمة: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)}. ولكي يفوز المؤمن بهداية ربه ورحمته، تأمره بالاستماع والإنصات للقرآن، لأنه رحمة، فيه إنذار وتذكير {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)}، ثُم تأمره باتباع ما جاء في القرآن من الذكر والتضرع والدعاء وعدم الغفلة {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً… وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِين (205)}، ونظيرها الآية: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية (55)}. وقال النحاس: لم يختلف في معنى {واذكر ربك في نفسك (205)} أنه الدعاء. وفي حديث النعمان بن بشير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الدعاء هو العبادة” أخرجه أصحاب السنن بسند جيد. والآية الأخيرة تلخص المقصد من وجود المخلوقات أو العمل أو الدور المناط بها في هذه الحياة وهو العبادة والتسبيح والسجود {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)}.
007.7.9.2- وهذا هو مقصد السورة وملخص موضوعاتها فهي تعرف الإنسان بأن دوره في الحياة هو أن يكون دائم الذكر لربه، لأن فيه سعادته وفلاحه واستقامة حياته. وألا يكون من الغافلين وإلا اجتالته الشياطين وأوردته موارد الهلاك، وفي صحيح مسلم “يقول الله عز وجلّ: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم”. غير أن من صفات الإنسان، للأسف، كما تقرره السورة، أنه كثير الغفلة قليل الذكر {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (3)}. وقد اقتضت رحمته ألا يكلهم إلى فطرتهم هذه فقد تنحرف، وألا يكلهم كذلك إلى عقولهم التي أعطاها لهم فقد تضل، وأن يبعث إليهم رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
007.7.9.3- وردت الكلمة “تضرع” ومشتقاتها سبع مرات في ثلاث سور من القرآن الكريم، وتتحدث هذه السور عن الدعوة للإيمان ووجوب الإتباع والعبادة: حيث تكررت ثلاث مرات في سورة الأعراف في الآيات (55، 94، 205)، وثلاث مرات في سورة الأنعام في الآيات (42، 43، 63)، ومرة واحدة في سورة المؤمنون في الآية (76). كما أن سورة الأعراف هي أكثر سورة تكرر فيها من صفات الله الحسنى الاسم “رب” وهي صفة تقترن كثيراً بالدعاء، والتذلل إلى الله، و”الدعاء هو العبادة” كما في الحديث، وفي تكرار الاسم “رب” إشارة إلى حضور الله جل جلاله لعباده بالصفة التي يرغبونها، وإلى حاجة الناس وتوسلهم إلى ربهم. كما تكررت كلمة “دعاء” ومشتقاتها 15 مرّة، وكلمة “ذكر” ومشتقاتها 16 مرة، وهي أيضاً إشارات إلى ما تدعو إليه السورة من ضرورة الإيمان والعبادة في حياة الناس. وفي هذه السورة نجد أيضاً حضاً كثيراً على الدعاء والتضرع وطلباً شديداً له كما في الآيات (29، 55، 56، 94، 134، 180، 194-200، 205)، ويوجد غيرها من الآيات تتحدث عن الدعاء مثل الآيات (14، 23، 37، 38، 47، 50، 53، 77، 126، 128، 129، 151، 155، 156، 189، 193).
007.7.9.4- الدعاء والتضرع إلى الله تعالى هي من أهم وسائل التدريب على معرفة أسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العلى، وبالتالي محبته، وهي من وسائل معرفة سنن الله وأفعاله في الإنسان، وهو كذلك من أهم وسائل معرفة الإنسان وإظهاره لما يريده لنفسه وما يتمناه في حياته (كما سنبيّنه بعد قليل)؛ والحكمة من الابتلاء بالشدّة والرخاء هو من أجل التضرع والدعاء، الذي يزداد به الإيمان، ومقصد الابتلاء هو من أجل التدرّب على الإيمان، فبالشدّة والرخاء، يعلم الناس أن لا ملجأ ولا منجى لهم إلا الله، بدليل الآية: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)} البقرة، أما في هذه السورة فيبتلي الله الناس جماعات وأمم، بدليل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} الأعراف، وقال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: يقول تعالى مخبرا عما اختبر به الأمم الماضية، الذين أرسل إليهم الأنبياء بالبأساء والضراء، يعني {بالبأساء} ما يصيبهم في أبدانهم من أمراض وأسقام، {والضراء} ما يصيبهم من فقر وحاجة ونحو ذلك، {لعلهم يضرعون} أي: يدعون ويخشعون ويبتهلون إلى الله تعالى في كشف ما نزل بهم .وتقدير الكلام: أنه ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا، فما فعلوا شيئا من الذي أراد الله منهم، فقلب الحال إلى الرخاء ليختبرهم فيه، ولهذا قال: {ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة} أي: حولنا الحال من شدة إلى رخاء، ومن مرض وسقم إلى صحة وعافية، ومن فقر إلى غنى، ليشكروا على ذلك، فما فعلوا. وقوله: {حتى عفوا} أي: كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم، يقال: عفا الشيء إذا كثر، {وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون}، يقول تعالى: ابتلاهم بهذا وهذا ليتضرعوا وينيبوا إلى الله، فما نجع فيهم لا هذا ولا هذا، ولا انتهوا بهذا ولا بهذا بل قالوا: قد مسنا من البأساء والضراء، ثم بعده من الرخاء مثل ما أصاب آباءنا في قديم الدهر، وإنما هو الدهر تارات وتارات، ولم يتفطنوا لأمر الله فيهم، ولا استشعروا ابتلاء الله لهم في الحالين. وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء، ويصبرون على الضراء، كما ثبت في الصحيحين: “عجبا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له” فالمؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من السراء والضراء، ولهذا جاء في الحديث: “لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيا من ذنوبه، والمنافق مثله كمثل الحمار، لا يدري فيم ربطه أهله، ولا فيم أرسلوه”، أو كما قال. ولهذا عقب هذه الصفة بقوله: {فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} أي: أخذناهم بالعقوبة بغتة، أي: على بغتة منهم، وعدم شعور منهم، أي: أخذناهم فجأة كما جاء في الحديث: “موت الفجأة رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر”. وقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا} أي: آمنت قلوبهم بما جاءتهم به الرسل، وصدقت به واتبعته، واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات، {لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} أي: قطر السماء ونبات الأرض. قال تعالى: (ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) أي: ولكن كذبوا رسلهم، فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم، انتهى.
007.7.9.5- الحقيقة أن الدعاء في الإسلام هو جزء من الإيمان والعبادة، جعله الله تعالى من أجل تحقيق أمنيات الإنسان وغاية مراده، وفيه يحدد الإنسان ما يريده لنفسه ولغيره (فهو “خطة العمل” بلغة مدربي الحياة في عصرنا هذا)، فالذي يطلب من ربّه النجاح أو الزواج أو المال أو الرياسة أو محبّة الله أو غيرها من الأمنيات، فهو إنسان بدأ الخطوة الأولى نحو تحقيق هدفه المنشود، وتحقيق ما يحبه أو ما يشتهيه، فقد حدد ما يشاؤه وما يريده لنفسه من الدنيا أو الآخرة، أو من كليهما، ووضع هدفاً معلوماً قابل للتحقيق في حياته، أو وضع خطة يريد أن يحققها في مرحلة من مراحل حياته، فإذا تحققت هذه الخطّة، يبدأ بعدها بخطّة أخرى، وهذه الخطّة أو الخطط المتعاقبة، وعملية المسير والتتابع في تنفيذ هذه الخطط والأهداف، هي في الإسلام: الزكاة للمسلم بعمل الصالحات، والتدسية للكافر بالتكذيب والفجور، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} الشمس؛ وهي مشيئة الإنسان وإرادته الحرّة في اختيار الوسيلة التي يريد للوصول إلى ما يحب، وهي الحرّية في الاختيار التي منحه الله إياها، فيختار لنفسه من نعم الله عليه ما يشاء، فالمؤمن يسلك الوسيلة المشروعة والكافر الوسائل المحرّمة، وكليهما يصل إلى ما يريد، ولكن شتّان ما بين العملين والخيارين: خيار الطريق الذي فيه رضى الله، وخيار الطريق الذي فيه سخط االله؛ وهو يعلم في الوقت نفسه أنه يجب أن يعمل ويجاهد ويهاجر للوصول إلى هذه الأهداف والأمنيات، فالحياة ليست فقط أمنيات، لكن يصحبها العمل، بالنَصّ في القرآن وبالأحاديث وبالتجربة، فإن الأماني بدون عمل لا تؤتي نتيجة، قال تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)} النساء، وفي الإسلام فإنما الأعمال بالنيات، قال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ” متفق عليه.
007.7.9.6- لقد علّمنا ربنا طلب الدعاء لتحقيق أمنياتنا وأمرنا به في بداية هذه السورة، قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)} الأعراف، وتكرر هذا الأمر في سور أخرى، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} غافر، فالدعاء واجب، وهو من العبادة، وقد خلق الإنسان للعبادة، وفعل الدعاء هو طاعة لله، وامتثال لأمره، وتركه هو استكبار يعاقب عليه بنصّ الآية السابقة. وهو من الإيمان والتصديق بكلام الله وأمره، وقد أخبر تعالى أنه قريب مجيب، وأن فعل الدعاء هو استجابة لدعوة الله، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} البقرة، لعلهم يرشدون، بدعائهم واعترافهم بأن الله خالقهم، ورازقهم، وخالق العوالم كلّها، ورازقها، ومحييها، ومميتها، ومحاسبها على أعمالها، وهو قادر على كل شيء.
007.7.9.7- والدعاء هو دليل على التوكّل على الله والاستعانة به والتفويض إليه وعلى صمد الحاجات إليه وحده، فهو الصمد، {الله الصمد (2)} انظر مقصد سورة الإخلاص (112.4.2)، وهو إقرار بعجز وضعف الإنسان وحاجته الدائمة إلى عون ربه ورحمته، وفي الدعاء أيضاً تدريب على ترقية الإيمان، لأن الله تعالى يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، فبهذه الإجابة يزداد الإنسان يقيناً واطمئناناً إلى قرب الله وقرب رحمته، حتى يصل إلى درجة الإحسان كما بيناه في درجات الإيمان، انظر (معنى الهداية: 4.1) في تسهيل فهم وتدبّر القرآن؛ وتوجد كذلك دعوات إذا صدق فيها صاحبها لا تردّ أبداً، بل هي مضمونة الاجابة في الدنيا، ومنها مثلاً دعاء طلب الهداية إلى الصراط المستقيم، لأن الله تعالى أمرنا أن نطلب هذه الهداية، في كل ركعة من صلواتنا، ولا تقبل صلاة بدون هذا الدعاء، لذلك فمن يصدق في طلب الهدى من الله، والله يعلم الصادق، يحصل عليه في الدنيا، لأنه لا بدّ من حصوله في الدنيا، فهو لا يحتاجه في الآخرة، وقد وعد سبحانه بالإجابة {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ (186)} البقرة، وقد سمعت بنفسي ورأيت كثيراً من قصص الإيمان والتحوّل إلى الإسلام من أناس غير مسلمين، بدأوا طريقهم إلى الله بدعاء وطلب الهداية من الله خالقهم، وكان سبب هدايتهم هو طلبهم الهداية من الله الذي لم يكونوا يعرفون صفاته، فهداهم الله إليه وإلى دينه الحق في قصص عجيبة، قريبة من الخيال؛ ولي تجارب شخصية مع الدعاء أشرت إليها في خاتمة كتاب مقدمة تسهيل القرآن، انظر في الخاتمة والملخص: (00.2.4.2- استجابة الدعاء؛ 00.2.5.5- نعمة الدعاء واستجابة الدعاء؛ 00.2.5.6- نعمة تحقيق الأمنيات والأحلام).
007.7.9.8- والدعاء دليل على الإيمان بالله، والاعتراف له بالربوبية، والألوهية، وعلى درجة يقين المؤمن بالأسماء والصفات، وعلامة على تحقيق الإيمان وتمكنه في القلب، لأن الداعي يتوجه إلى ربه ويدعوه فهو بذلك موقن بأنه موجود، رحيم وغني ويسمع ويقدر ويفعل ما يريد، وبالإكثار من الدعاء يزداد يقين الداعي، وخوفه من الله وإقراره بالتوحيد الخالص لله؛ والدعاء من صفات المرسلين والنبيين: قال تعالى: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين (90)} الأنبياء، وأدعية المرسلين كثيرة في القرآن، ومشهورة بين المسلمين، منها قوله تعالى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} الأعراف، {وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (29)} المؤمنون، {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} الأنبياء، {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)} طه، {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)} إبراهيم، {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)} الممتحنة، وغيرها من آيات الدعاء الكثيرة؛ والدعاء من صفات المؤمنين، قال تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم (10)} الحشر، والملائكة كذلك يسبحون ربهم ويستغفرون ويدعون للمؤمنين في الدنيا وفي الآخرة، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)} غافر.
007.7.9.9- وحول الدعاء انظر أيضاً ما يلي:
007.7.9.9.1- سورة الفاتحة، الفصل 001.4.3- حول مقصدها وأنها صلاة ودعاء.
007.7.9.9.3- انظر سورة المجادلة، تناسب السورة، في المباحث 058.8.1.2 و 058.8.1.3 حول الدعاء.
007.7.9.9.4- انظر سورة المزمل، تناسب السورة، في الفصل 073.8.1 حول الدعاء.
007.7.9.9.5- وانظر الاستعاذة في سورة الفلق: (113.7.3– سياق السورة باعتبار مقصدها وهو الأمر بالاستعاذة برب الفلق من شرّ ما خلق؛ في الفصول 113.7.3 و 113.7.4 و 113.7.5 حول الاستعاذة بالله وأنها نعمة عظيمة وتجلب الخير وتنمي الإيمان).
007.7.9.9.6- انظر في تسهيل فهم وتدبّر القرآن: (7.1.5.8.3.2.2- نهاية الإنسان هو الذي يحددها، وهي التي يريدها ويختارها بنفسه؛ 7.1.5.8.3.2.3- كلّ إنسان يحقق الله له نواياه وأمنياته كاملة؛ 7.1.5.8.3.2.4- سنن الله في تحقيق الأماني لمخلوقاته).
007.7.10- الشيطان لا يتورع عن استخدام الكذب وشتى أنواع المكر والخداع لكي يوقع بابن آدم:
سياق السورة يؤكد بأن الشيطان عدو شرس، وخبيث كاذب محتال، لا يمل ولا ييأس من العمل على غواية ابن آدم، ليس له ضمير أو أي إحساس أو شفقة عليه، بل هو كالآلة بدون مشاعر، وقد أخذ على نفسه عهداً أن يغوي آدم وذريته، وأن يضله وأن يقعد له صراط الله المستقيم، ثم ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين (17)}. فقد أخرج آدم وزوجه من النعيم المقيم في الجنة، بالمكر والكذب والخداع. قلب له الحقائق، أقنعهما إفتراءاً على الله كذباً بأنه ما منعهما ربهما، ولا نهاهما عن الأكل من ثمر تلك الشجرة في الجنة إلا من أجل أن لا يكونا ملكين، ومن أجل أن لا يكونا خالدين في الحياة. ولأنه عنيد كاذب، مصر على جعل الباطل حقاً، والحق باطلاً، لا ذمة عنده ولا ضمير ولا شفقة ولا رب رقيب، أقسم لهما أنه لهما من الناصحين، وأنه حتى يكونا ملكين أو يكونا من الخالدين، يتوجب عليهما أن يأكلا من تلك الشجرة.
هذا الشيطان سيء جداً، وخطير جداً، فهو لا يخاف الله بل يفتري عليه الكذب، ولا يخاف على نفسه، فقد أرداها مذموماً مدحوراً في غضب الله ثم في النار. ثم أعماه الكبر فأصبح لا يرى أمامه سوى الإيقاع بآدم وذريته في المعاصي. وقد حصل له هذا في غفلة من آدم، حين غفل أو سهى عن النعيم والجنان الذي جعله الله له ولزوجه، وسهى عن تكريم ربه، بأن خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد الملائكة كلهم أجمعون، {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)}، وقد سبق أن أنذره ربه وحذره من عداوة الشيطان. ولا يزال نفس المكر والدهاء الشيطاني بآدم وذريته يتكرر، من أول دخول آدم وزوجه الجنة إلى هذه الساعة، وحتى قيام الساعة. وسوسة بالباطل وضلالات وغوايات ووعود وأماني كاذبة يحيكها الشيطان حوله من كل الاتجاهات. وابن آدم لا يزال غافلاً ناسياً يكرر نفس معصيته التي عصاها في الجنة. الخطأ نفسه والغفلة نفسها إلى هذه الساعة وحتى قيام الساعة، اتخذوا دينهم هزواً ولعباً، وغرتهم الحياة الدنيا، وغرتهم الأماني، واتبعوا الشهوات، واتخذوا الشياطين أولياء من دون الله {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)}. لهذا السبب تركز سورة الأعراف على تحريض ابن آدم على دوام الذكر والدعاء والعبادة، وتحارب الغفلة التي ينفذ منها إليه الشيطان بأباطيله {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِين (205)}. فالشيطان ماكر لا يأمر مباشرة، فهو يعلم أنه ليس على الحق، ولا يدخل مع الإنسان في مواجهة بالحقائق، بل هو يستعمل الحيلة والخداع، التي لا تنطلي إلا على الغافلين، وهو يعمل كذلك في الخفاء حتى لا يتنبه ابن آدم بأنه يخاطب عدواً.
وقد ورد ذكر الشيطان مع آدم في الآيات (11-30)، ثم اختفي ذكر هذا اللعين، مع أنه لاعب رئيسي، في كل آيات القصص القادمة، التي تتحدث عن إرسال المرسلين، إلى الناس تدعوهم إلى العبادة والذكر والدعاء، وأن لا يكونوا من الغافلين. وكأن لسان حال اختفاءه من آيات القصص في السورة يتطابق مع دوره الإجرامي في الإضلال، ومع حقيقة عمله في الأمر والوسوسة في الخفاء. مع أنه في الواقع له دور كبير في تحريك كل أحداث القصص المذكورة في السورة، وتوجيه أحداثها. بل وحتى في نهاية كل قصة تنتهي الغلبة له، بأن ينقلب حال الناس من الإيمان والعبادة والإتباع في بداية نهوض الأمة المؤمنة، إلى الكفر والإلحاد في نهايتها. ثم يعود ويأتي ذكره لعنه الله في الآية (175) تصف فيها الحال البائس الذي تصير عليه حال من يتخلى آيات الله بعد أن جاءته وتعلمها، ثم كفر بها فاستحوذ عليه الشيطان، فصار كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. ثم يختفي، ويعود ليظهر مرة أخرى في نهاية السورة في الآيتين (200، 201) وهما تشيران إلى خطورة الشيطان وأن الإنسان يحتاج إلى مساعدة ربه كي ينجوا من هذه المواجهة معه، فتبدأ بالنبي عليه السلام، تأمره بأنه إذا أحس وسوسة أو تثبيط عن الخير أو حث على الشر أن يلجأ إلى الله مستعيناً به إنه سميع عليم، ثم تبين أن الذين اتقوا إذا أصابهم عارض من وسوسة الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون أمر الله ونهيه آخذون له، وعاصون للشيطان.
انظر أيضاً في تسهيل فهم وتدبّر القرآن، 7.1.5.8.2- الجنّ في القرآن.
007.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:
007.8.0- انظر سورة الكهف 018.8.0- تناسب السّور من الأعراف إلى الكهف في الربع الثاني من القرآن
007.8.1- تطابق مقصد ومواضيع سورة الأعراف مع سورة الأنعام:
احتوت سورة الأعراف وسورة الأنعام على نفس المواضيع وهي الدعوة إلى الإيمان بأركانه الستة والعبادة، ونفس المقصد وهو التوحيد واتباع الهدى. ومما يجدر ملاحظته أن سورة الأعراف ابتدأت بداية تشبه بداية الأنعام، لكن في كل من البدايتين إشارة إلى الوسائل والأدوات التي اعتمدتها كل منهما في إيصال ما احتوته من مقاصد وموضوعات إلى الإنسان. أي أنها في الأنعام بدأت بالحديث عن الخلق والملك، واتخذته وسيلة لبيان وإيصال ما احتوته فيها من الموضوعات والمعاني. أما الأعراف فبدأت بالحديث عن إنزال الكتاب إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، واتخذت من الرسالة والمرسلين وسيلة لإيصال ما فيها من المعاني. وقد تشابهت أيضاً في بدايتهما الكثير من المعاني والمواضيع والتراكيب: ففي الآية (6) في الأنعام دعوة إلى الاعتبار من هلاك القرون، وتشبهها في الآية (4) من سورة الأعراف بدعوتها إلى الاعتبار من هلاك القرى. وأمرهم في الآية (11) وما بعدها في الأنعام إلى السير في الأرض ليروا آيات الله في خلقه، ويشبهها في الآية (7) وما بعدها في الأعراف بالاعتبار من القصص الحقيقية التي تتحدث عن المرسلين مع أقوامهم بما يتناسب مع أسلوب ووسيلة كل منهما في التعبير. وغيرها الكثير من المعاني كإعراض الناس عن الآيات، واستهزائهم، وسخريتهم من الرسل، وظلمهم لأنفسهم، ورحمة الله بهم، وأمره لهم بالإيمان وعدم اتخاذ الأولياء، والتمكين في الأرض والإطعام والمعايش، والفلاح لمن آمن والخسارة لمن كفر، إلى أن تلتقي السورتين في تعبير واحد في الآية (21) من سورة الأنعام والآية (37) من سورة الأعراف عند قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ (37)}، وأنهم كانوا يدعون من دون الله ويتخذون له الشركاء. ثم تستمر السورتين إلى النهاية في تقريع الكفار كل واحدة حسب أسلوبها وأدواتها، وأنهم أهلكوا بسبب كفرهم بالآيات (في الأنعام)، وأهلكوا بسبب تكذيب الرسل وكفرهم بالكتاب (في الأعراف). ثم وفي تسلية المؤمنين بإظهار النعمة في الخلق والملك والأنعام والتسخير وغيرها من إنعام المنعم التي لا نهاية لها وذلك في سورة الأنعام، أما في الأعراف ففيها تسلية المؤمنين بإظهار نعمة الرسالة والعناية والتعريف بالحقائق، الذي يلخصه الموقف على الأعراف. ثم في بيان أن المؤمنون قلّة والكفار كثرة (في كلا السورتين).
إن سورة الأنعام تدعوا إلى الهدى باستخدام نعم الله وعرض آياته في الخلق والملك. وكذلك سورة الأعراف فهي تدعوا إلى الهدى باستخدام التجربة العملية للإنسان عبر عرضها في التاريخ البشري، من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلّم. جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل. ويبين سياق السورة في تتابعه: كيف استقبلت البشرية رسل الله وما معهم من الهدى؟ وكيف كانت عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة.
007.8.2- قال الإمام جلال الدين السيوطي: مناسبة وضع هذه السورة عقب سورة الأنعام أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق وقال فيها: {هوَ الذي خلَقَكُم من طين} وقال في بيان القرون: {كَم أَهلكنا من قبلهم من قرن} وأشير فيها إلى ذكر المرسلين وتعداد كثير منهم وكانت الأمور الثلاثة وتفصيلها فبسط فيها قصة خلق آدم أبلغ بسط بحيث لم تبسط في سورة كما بسطت فيها وذلك تفصيل إجمال قوله: {خلَقَكُم مِن طين} ثم فصلت قصص المرسلين وأممهم وكيفية إهلاكهم تفصيلاً تاماً شافياً مستوعباً لم يقع نظيره في سورة غيرها وذلك بسط حال القرون المهلكة ورسلهم فكانت هذه السورة شرحاً لتلك الآيات الثلاثة. وأيضاً فذلك تفصيل قوله: {وهوَ الذي جعلَكُم خلائفَ الأَرض} ولهذا صدر هذه السورة وفي قصة ثمود: {جعلَكُم خُلفاء من بعد عاد} وأيضاً فقد قال في الأنعام: {كتَبَ ربَكُم على نفسهِ الرحمة} وهو موجز وبسطه هنا بقوله: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون} إلى آخره فبين من كتبها لهم. وأما وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر الأنعام فهو: أَنه قد تقدم هناك: {وأَن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه} وقوله: {وهذا كتابٌ أَنزلناهُ مباركٌ فاتبعوه} فافتتح هذه السورة أيضاً باتباع الكتاب في قوله: {كتاب أُنزِلَ إِليك} إِلى {اتبعوا ما أُنزِلَ إِليكُم مِن رَبِكُم}. وأيضاً لما تقدم في الأنعام: {ثم يُنبئهم بِما كانوا يَفعَلون} {ثُمَ إِلى ربِكُم مرجِعكم فيُنَبِئكُم بما كنتم فيه تختَلفون} قال في مفتتح هذه السورة: {فلنسأَلن الذينَ أُرسِلَ إِليهم ولنسألن المُرسَلين} {فلنقصن عليهم بعلم} وذلك شرح التنبئة المذكورة. وأيضاً فلما قال في الأنعام: {من جاء بالحسنة فله عشر أَمثالِها} وذلك لا يظهر إلا في الميزان افتتح هذه السورة بذكر الوزن فقال: {والوزن يومئذٍ الحق} ثم ذكر من ثقلت موازينه وهو من زادت سيئاته على حسناته ثم ذكر بعد ذلك أصحاب الأعراف وهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم.
007.8.3- وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير: لما قال تعالى في سورة الأنعام، ابتداء بالاعتبار {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِين (6)} الأنعام، ثم قال تعالى {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (10)، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين (11)} الأنعام، ثم قال تعالى {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا (34)} الأنعام، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاء (42)} الأنعام، وقال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي (130)} الأنعام، فوقعت الإحالة في هذه الآي على الاعتبار بالأمم السالفة وما كان منهم حين كذبوا أنبياءهم وهلاك تلك القرون بتكذيبهم وعتوهم وتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم بجريان ما جرى له بمن تقدمه من الرسل {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ (33)} الأنعام، فاستدعت الإحالة والتسلية بسط أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية، والإعلام بصبر الرسل، عليهم السلام، عليهم وتلطفهم في دعائهم، ولم يقع في السور الأربع قبل سورة الأنعام مثل هذه الإحالة والتسلية وقد تكررت في سورة الأنعام كما تبين بعد انقضاء ما قصد من بيان طريق المتقين أخذاً وتركاً وحال من حاد عن سننهم. فلما انقضى أمر هؤلاء وصرف الخطاب إلى تسليته عليه السلام وتثبيت فؤاده بذكر أحوال الأنبياء مع أممهم وأمر الخلق بالاعتبار بالأمم السالفة، وقد كان قدم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكر الأنبياء {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده (90)} الأنعام، بسط تعالى حال من وقعت الإحالة عليه، واستوفى الكثير من قصصهم إلى آخر سورة هود إلى قوله سبحانه {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ (120)} هود. فتأمل بما افتتحت السور المقصود بها قصص الأمم وبما اختتمت يلوح لك ما أشرت إليه والله أعلم بمراده، وتأمل افتتاح سورة الأعراف بقوله {فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين (7)}، وختم القصص فيها بقوله: {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون (176)} الأعراف، بعد تعقيب قصص بني إسرائيل بقصة بلعام {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها (173)} … الآية، ثم قال: {ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا (176)} الأعراف. وتأمل هذا الإيماء بعد ذكر القصص كيف الحق من كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من العرب وغيرهم بمن قص ذكره من المكذبين، وتأمل افتتاح ذكر الأشقياء بقصة إبليس وختمها بقصة بلعام وكلاهما ممن كفر على علم، وفي ذلك أعظم موعظة، قال الله تعالى إثر ذلك {من يهد الله فهو المهتدى (178)} … الآية، فبدأ الاستجابة لنبيه بذكر ما أنعم به عليه وعلى من استجاب له فقال تعالى: {المص (1) كتاب أنزل إليك (2)} فأشار إلى نعمته بإنزال الكتاب الذي جعله هدى للمتقين، وأشار هنا إلى ما يحمله على التسلية وشرح الصدور بما حوى من العجائب والقصص مع كونه هدى ونورا فقال {فلا يكن في صدرك حرج منه} أي أنه قد تضمن مما احلناك عليه ما يرفع الحرج ويسلي النفوس لتنذر به كما أنذر من قبلك ممن نقص خبره من الرسل ولتستن في إنذارك ودعائك وصبرك بسنتهم وليتذكر المؤمنون. ثم أمر عباده بالاتباع لما أنزله فقال: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم {3)} فإن هلاك من نقص عليكم خبره من الأمم إنما كان لعدم الاتباع والركون إلى أوليائهم من شياطين الجن والإنس، ثم أتبع تعالى ذلك بقصة آدم عليه السلام ليتبين لعباده ما جرت به سنته فيهم من تسلط الشيطان وكيده وأنه عدو لهم {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ (27)} ووقع في قصة آدم هنا مالم يقع في قصة البقرة في بسط ما أجمل هناك، كتصريح اللعين بالحسد، وتصور خيريته بخلقه من النار، وطلبه الإنظار والتسلط على ذرية آدم والإذن له في ذلك، ووعيده ووعيد متبعيه ثم أخذه في الوسوسة إلى آدم عليه السلام وحلفه له {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين (21)} الأعراف، وكل هذا مما أجمل في سورة البقرة ولم تتكرر قصة إلا وهذا شأنها، أعني أنها تفيد مهما تكررت مالم يكن حصل منها أولاً؛ ثم انجرّت الآي إلى ابتداء قصة نوح عليه السلام، واستمرت القصص إلى قصص بني إسرائيل، فبسط هنا من حالهم وأخبارهم شبيه ما بسط في قصّة آدم وما جرى من محنة إبليس، وفصّل هنا الكثير وذكر مالم يذكر في البقرة حتى لم يتكرر بالحقيقة ولا التعرض لقصص طائفة معينة فقط، ومن عجيب الحكمة أن الواقع في السورتين من كلتا القصتين مستقل شاف، وإذا ضم بعض ذلك إلى بعض ارتفع إجماله ووضح كماله، فتبارك من هذا كلامه ومن جعله حجة قاطعة وآية باهرة. ولما أعقب تعالى قصصهم في البقرة بأمره نبيه والمؤمنين بالعفو والصفح فقال تعالى: {فاعفوا واصفحوا (109)} البقرة، أعقب تعالى أيضاً هنا بقوله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199)} الأعراف.