العودة إلى فهرس القرآن: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر القرآن)
7.2 أساليب القرآن في الخطاب، والبيان لطريق الهدى، وإيصال الدّين
ملاحظة 1: لقد تمّ تأليف هذه الكتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن، كما ذكرنا في المقدّمة والتمهيد على ثمانية أبواب، (انظر: 0.3- لقد أنشأنا هذا الكتاب على ثمانية أبواب).
ملاحظة 2: هذا الكتاب مكوّن من مقدّمة وخاتمة وجزأين متكاملين، كما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– الجزء الأول: اسمه “كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن” ويتناول القرآن كاملاً وبشكل عام. انظر الفهرس هنا
– الجزء الثاني: اسمه “كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن” ويتحدث عن كل سورة من سور القرآن منفردة وبنفس الأبواب الرئيسية الثمانية المشار إليها أعلاه. انظر الفهرس هنا
– الملخص والخاتمة: اضغط هنا
7.2- أساليب القرآن في الخطاب، والبيان لطريق الهدى، وإيصال الدين: فنتحدّث عن سياق القرآن، واستخدام أساليب متنوّعة في مخاطبة النّاس وإيصال الدّين إلى عقولهم وقلوبهم: وذلك بإرسال المرسلين، والحضّ على طلب العلم، والحوار، وخطاب الإنسان بكل جوارحه، والقتال في سبيل الله، والإنفاق. (تطبيق عملي بإظهار نتائج اتّباع طريق الهدى وردّات الأفعال)
7.2.1- إرسال المرسلين، وإقامة الحجّة على النّاس:
لم يخلق الله الإنسان في هذه الدّنيا لكي يعذّبه، بل يعذّب المفسدين بإفسادهم بعد أن يقيم عليهم الحجّة، فإنّ الله تعالى لا يُدخل النّاس الجنّة أو النّار لمجرّد أنّه يعلم أنّهم يستحقّون ذلك، بل يُدخلهم الّجنة والنّار بسبب أعمالهم التي قاموا بها فعلا في دنياهم، ولو أنّ الله تعالى خلق خلقاً وأدخلهم ناره: لأوشك أن يحتجّوا على الله بأنّه لم يختبرهم، ولم يجعل لهم مجالاً للعمل، وهذه حجّة بيّنها سبحانه بقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)} طه؛ وأراد الله تعالى دحضها؛ فخلقهم في الدّنيا، وركَّب لهم عقولاً، وأنزل عليهم كُتبه، وأرسل رسلَه، مبشّرين من أطاعهم بالجنّة، ومنذرين مَن عصاهم بالنّار؛ وكلّ ذلك لئلّا يكون لهؤلاء حجّة على الله يوم القيامة، قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)} النّساء. فالله جلّ وعلا لا يعذّب أحداً إلا بعد الإنذار والإعذار على ألسنة الرّسل عليهم الصّلاة والسّلام، مؤيّدين بالوحي والتّنزيل.
قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)} فاطر، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} النّحل. أرسل سبحانه وتعالى الأنبياء والمرسلين إلى جميع الأمم، ولم يترك أمّة إلا وجاءها النّذير، يبلّغهم رسالاتِ ربّهم، وأنّهم لم يخلقوا عبثاً، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} المؤمنون. وكما بيّناه فإن أكثر من نصف عدد آيات القرآن هي عبارة عن قصص، وغالبيّتها تتحدّث عن سير الأنبياء والمرسلين، إذ أنّه ليس من العدل أن تُظلم أمّة فتترك هملاً بلا بلاغ، وبأن لا يُبعث فيها رسولاً، بل أرسل تعالى الكثير من الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا (38)} الفرقان، منهم من علِمناهم، ومنهم من لم نعلمهم، قال تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا (164)} النّساء، وقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (78)} غافر. والأنبياء المذكورين في القرآن كلِّه خمسة وعشرون (25) فقط، أما غيرُ المذكورين فهم كثيرون، دون تحديد بعدد، لأنّ الله تعالى أرسل رسلاً إلى كلّ أمّةٍ من الأمم، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)} فاطر، وذكر أنّهم متتابعون، الرّسول يتبعه الرّسول، قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا، كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ، فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ، فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)} المؤمنون.
وقد اختلف النّاس في قبولهم رسالات ربّهم إلى فريقين: فريق صدّق الرّسل وآمن بالهدى، فنال مراده من الفلاح في الدّنيا والسّعادة الأبديّة في الآخرة، وفريق كذّب الرّسل فأعرضَ ولم يؤمن، فنال جزاءه من العقاب في الدّنيا والآخرة، جزاءً وفاقاً على ما اقترفه في حقّ نفسه وحقّ العباد، وكفرانه بنعمة ربّه. ويتجلّى هذا واضحاً في المثالين التّاليين من إعراض قريش في مكّة بادئ الدعوة وكفرهم وحربهم للمسلمين، وإقبال الأوس والخزرج من المدينة على الإيمان والمبايعة على نشر الإسلام وحمايته، كما يلي:
7.2.1.1- السّبب في عدم دخول قريش في الإسلام وحربهم له، مع علمهم بصدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم وصدق ما جاء به من القرآن؛ وإسلام غيرهم بسماعهم للآيات المعدودات أو القليلة من القرآن: هو أنّ زعماء قريش خافوا على زعامتهم ونفوذهم بين القبائل، وأعماهم تعصّبُهم لآبائِهم عن أن يتّبعوا من علموا صدقه وصدق ما جاء به. خافوا على زعامتهم من أن يأخذها الله صاحبُها منهم، واستعظموا أن يتركوا ما وجدوا عليه آباءهم، ولو علموا أنّ ما جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلّم كذباً ما تبعوه محاربين حين خرج من عندهم من مكّة إلى المدينة، ولاكتفوا بأن النّاس هناك سيكتشفون كَذبه وينتهي أمرُه، إلا أنّهم علموا في قرارة أنفسهم صدقه وأنّ النّاس ستصدقُه، وسيظلّ خطر دعوته على زعامتهم ومعتقداتهم الموروثة قائماً، فجيّشوا لاستئصاله واستئصال دعوته الجيوش في حروب استماتوا للانتصار فيها على المسلمين دون جدوى، في غزوات بدر وأحد والخندق، ولم ينتهوا إلا بعد أن وقع ما كانوا يخشونه من زوال زعامتهم وتحطيم معتقداتهم، إذ هُزموا شرّ هزيمة وكسرت شوكتُهم بعودة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم إلى مكّة فاتحاً بالحقّ مزهقاً للباطل، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} الإسراء. إنّهم لا يستجيبون للحقّ لهوى في أنفسهم، ولكبر {مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ (56)} غافر. وخير مصداق على هذا القول ما ساقه أبو جهل كبراً من حجّة لسبب تكذيبه ما سمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ذلك أنّ أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يصلّي من الّليل في بيته، إلخ. فلمّا أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبو سفيان في بيته فسأله عن رأيه فيما سمع من محمّد صلّى الله عليه وسلّم من القرآن، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمّد؟ فقال: ماذا سمعت، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشّرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاذبنا على الرّكب، وكنّا كفَرَسيْ رهان، قالوا: منّا نبيّ يأتيه الوحي من السّماء، فمتى ندرك مثل هذه، والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدّقه. قال: فقام عنه الأخنس وتركه. السّيرة النبويّة لإبن هشام من قصّة استماع قريش إلى قراءة النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
انظر الباب 038.5 ملخص موضوع سورة “ص” في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، فهي تبيّن لماذا لا يؤمن النّاس. تبيّن ما كانت عليه قريش من الكبر والحسد والتعصّب والشّك والتعجّب حين استقبلت الوحي إلى محمّد عليه الصّلاة والسّلام، وعجب الكفّار ليس لعيب في الرّسالة لكن لمخالفته ما عليه آبائهم {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)}.
كذلك حين يتصوّر الإنسان واهماً أنّه قد استغنى بما في يده من المال والبنين والسّلطان فإنه يطغى ويتجبّر، فقد استغنى عن الله سبحانه وتعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7)} العلق. انظر المبحث 7.3.5- لماذا يكفر الإنسان ولا يؤمن.
7.2.1.2- أمّا القلوب غير المنقادة للهوى والبريئة من الكبر والباحثة عن الحقّ والعدل، فحالُها مختلف، فسماعها لآيات قليلة تفعل في نفسها فعلاً عجيباً، وتقلب حالها من كفر إلى إيمان. مثلما حصل في قصّة إسلام أسعد بن زرارة: حين جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: أَنْعِمْ صباحاً، فقال صلّى الله عليه وسلّم: “قد أَبْدَلَنا الله به ما هو أحسن من هذا، تحيّة أهل الجنة: السّلام عليكم”. فقال له أسعد: إلى مَ تدعو يا محمد؟ قال: إلى شهادة أنّ لا إله إلاّ الله، وأَنّي رسول الله، ثم قرأ هاتين الآيتين: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ألاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَق نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)} الأنعام، فلمّا سمع أسعد، قال: أشهد أن لا إله إِلاَّ الله، وحده لا شريك له، وأَنَّكَ رسولُ الله، بأبي أنت وأُمّي، أنا من أَهل يثرب ومن الخزرج، وبَيْنَنا وبَيْنَ إخواننا من الأَوس حبال مقطوعة، فإنْ وصلها الله بك، فلا أجد أعزّ منك، ومعي رجل من قومي، فإنْ دخل في هذا الأمر، رجوت أن يُتِمَّ الله لنا أمرنا فيك، فالحمد لله الّذي ساقنا إليك، والله ما جئت إلاّ لنطلب الحلف على قومنا، وقد آتانا الله بأفضل ما أتيت له. ثم أقبل زكوان، فقال له أسعد: هذا رسول الله الّذي كانت اليهود تبشّرنا به، وتخبرنا بصفته، فَهَلُمّ فأَسلم. فأَسلم زكوان. ثم قالا: يا رسول الله، ابعث معنا رجلاً يعلّمنا القُرآن، ويدعو النّاس إلى أَمرك. فأمر رسول الله مُصعب بن عُمير، وقد كان يعلم من القرآن كثيراً، أمره بالخروج مع أسعد وزكوان، فخرج معهما إلى المدينة، وقدما على قومهما وأخبراهم بأمر رسول الله وخَبَرِه، فأجاب من كلّ بطن، الرّجل والرّجلان. فهكذا جعلت آيتين من القرآن طالب الحق على يقين بأن ما سمعه هو كلام الله لا قول البشر، وجعلته يفديه بنفسه وماله. وقد كان النصر حليف بعيث رسول الله، حتى أنّ أُسيد بن الحضير رئيس الخزرجيين، لما سمع منه قولَه سبحانه: {حَم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيّاً لِقَوْم يَعْلَمُونَ (3)…} فصلت، ظهرت أَمارات الإيمان في وجهه، وشهد الشهادتين، ثم قام وأخذ بيد مُصعب وقال: أَظْهِر أَمرَكَ ولا تهابَنَّ أَحداً.
7.2.2- استنهاض ما وهبه الله الإنسان من نعمة العقل، الذي هو موضع التّكليف، وإثارته من أجل استخدامه كما يجب، في التعلّم والتفكّر والتعرّف على الحقّ واتّباعه: إنّ أوّل كلمة نزل بها الوحي هي الأمر ب {اقْرَأْ}. فطلب العلم، واستخدام أدواته، من قراءة وكتابة، وتفكّر في مخلوقات الله، هو من أُولى الواجبات التي أمر بها الإسلام بنصّ القرآن، لكي يتعرّف الإنسان على خالقه وعلى ذاته وعلى الكون من حوله، كما يلي:
7.2.2.1- القرآن يخاطب عقل الإنسان الذي هو موضع التّكليف، والذي يميّزه عن المخلوقات الأخرى من الأنعام والجمادات. والمتدبّر لآيات القرآن العظيم سيلاحظ وجود الكثير من الآيات التي تحضّه على طلب العلم، وتشير إلى أن الله سبحانه وتعالى يرفع من قدر الذين يعلمون، ويصفهم بأنّهم أولو الألباب، أي أصحاب العقول السليمة، الذين استخدموها كما يجب فحصلوا على العلم، مثل قوله سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} الزّمر، وأولوا الألباب هؤلاء هم أصحاب العقول الذين تذكّروا وتفكّروا فاهتدوا السبيل، قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} الإنسان، وهم الذين آمنوا وقنتوا وسجدوا وقاموا، رجاء رحمة ربّهم، قال تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ (9)} الزمر. ولأنّ العقل هو موضع التّكليف فقد رفع القلم عمّن لا عقل له، ففي الحديث الصّحيح عن عائشة رضي اللّه عنها أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: “رفع القلم عن ثلاثة: عن النّائم حتى يستيقظ، وعن الصّغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق”، قال أبو بكر في حديثه “وعن المبتلى حتى يبرأ”. وقد حرّم رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم كلّ مُسكرٍ وكلّ ما يذهب بعقل الإنسان، فعن عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: “نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ”، وفي الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} المائدة.
كذلك يستنكر القرآن على الذين لا يستخدمون نعمة العقل التي ميزهم الله بها عن غيرهم من المخلوقات، ويؤنّبهم ويدعوهم ليستخدموا عقولهم، فقد تكرّرت في القرآن {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، ويدعوهم أيضاً للتفكّر في آيات الله في السماوات والأرض، وفي أنفسهم، وفي كلّ شيء حولهم، وقد تكرّرت {لَعَلَّكُمْ تتفكرون}. ويستنكر عليهم أنّهم لا يستخدمون سمعهم وبصرهم وأفئدتهم، فهي أدوات فقههم ووسائل إيصال العلوم إلى عقولهم وفكرهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أولئك كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} الأعراف. فللإنسان عقل تميّز به لكي يعرف ربّه ونفسه، فهو ليس كالمخلوقات الأخرى غير العاقلة، أو كالأنعام الضّالة. وعدو الإنسان الأوّل وهو الشّيطان، الذي لا يألو جهداً، ولا يترك فرصة عن استخدام أسلوب الإضلال وطمس الحقائق وخلط الأمور على الإنسان، بالأماني والشّهوات وتقليد الآباء، لكيلا يستخدم عقله وسمعه وبصره. وبالعقل يتدبر الإنسان القرآن، فيعقل مراد ربّه من خلقه ومقصد وجوده، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} محمّد.
7.2.2.2- فلا بدّ للإنسان من استخدام ما وهبه الله إيّاه من نعمة العقل، والتمتّع باستخدامه في تدبّر آياته في الكون، وفي الأنفس من أجل التعرّف على ما يلي:
7.2.2.2.1- التعرّف على الله خالقه، وعلى مقصد وجوده، بالتفكّر في أصل خلقته، وبالقصد من كونه موجود، وبوظيفته، ودوره في الحياة، وعلاقاته مع غيره.
فالقرآن يدعو جميع الناس، ويهيب بالعاقل منهم لكي يستعمل عقله، موضع التّكليف، ويحرّك فكره، فيعرف الحقّ خالقه، ويعبد ربّه على علم، ويشكره على نِعَمِه، ويدعوه ليفتح سمعه وبصره ليهتدي إلى الحقّ، فيؤمن على بصيرة ولا يكفر بسبب الضلالات والأماني التي يبثّها الشّيطان. يدعو إلى دراسة الإنسان والكون المحيط به، ومعرفة العلاقة بينهما، والتفكّر بالقصد من كونهما موجودان، وذلك لغرض الاهتداء إلى الإيمان بوحدانية الله ووحدانية رسالته للإنس والجنّ، وبالتّالي عبادته واتّباع الدّين الذي جاء به الرّسل، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} الذّاريات.
في الآيات (59-66) من سورة النمّل تبدأ بخمسة أسئلة مهمّه عن حقائق واضحة يجب على الإنسان معرفة فاعلها، قال تعالى: {أمّن خلق؟ أمّن جعل؟ أمّن يجيب؟ أمّن يهديكم؟ أمّن يبدأ الخلق ثمّ يعيده؟} وتتكرّر الإجابة في نفس الآيات خمسة مرّات بسؤال من الله سبحانه وتعالى {أإله مع الله}، ويجب على السّامع أن يجيب لنفسه بصدق، إذا علم الإجابة، أي إذا وجد أنّ هناك إله مع الله فليذكره، وإذا لم يجد فليقل: لا إله إلا الله.
لقد بيّن القرآن للإنسان أصل خلقه، وفسّر له سرّ وجوده ووجود هذا الكون من حوله، وعلاقته بخالق الكون وخالق الوجود، ودعاه إلى أن يكون جزءاً إيجابياً منسجماً مع الكون. قال له: من هو؟ ومن أين جاء؟ وكيف جاء؟ ولماذا جاء؟ والى أين يذهب؟ ومن ذا الذي جاء به من العدم؟ ومن ذا الذي يذهب به؟ وما مصيره؟ صحّح له دينه وإيمانه، قال له: كيف يتعامل مع الكون ومع خالق الكون. والنتيجة هي أنّ للإنسان: إله واحد، خالق واحد، مالك واحد (وهو الله): فحاكم واحد، ومشرّع واحد، ومتصرّف واحد وهو الله (ثمّ أن يحكم رسل الله وأولي العلم من بعدهم بما أنزله الله): دين واحد، وشريعة واحدة، وقانون واحد (وهو شرع الله الذي أنزله في القرآن الذي حفظه، والسنّة التي أتى بها الرّسول من عند الله، والكتب التي أنزلت من قبل، قبل تحريفها).
7.2.2.2.2- التعرّف على صدق الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بدراسة أحواله، فقال: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)} سبأ. والتعرّف على القرآن بتدبّر آياته، فقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} النّساء، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)} النّحل، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)} النّحل.
7.2.2.2.3- التأمّل في قصص الإنسان نفسه وفي تجاربه، لتعلّم الدّروس، واستخلاص العبر، فقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ (42)} الرّوم. وتدبّر سنّة الله في الذين خلو من قبل، حتى يتحاشى ما أصابهم من سوء، نتيجة بعدهم عن طريق الله، فقال: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ (101)} يونس.
7.2.2.2.4- تدبّر آيات الله في القرآن وفي الكون مرة أخرى للتّعرف على السّنن التي يجري بها الله هذا الكون، ليتمكّن من استخلاص معنى تسخير السّماوات والأرض من الله للإنسان، ويبحث عن رزق الله المكنون في هذا الكون بالعلم النّظري والتّجريبي، فقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} الملك. وتدبّر حكمة التشريع ليحسن تطبيقه في الأرض وبالتدبّر في الوسائل والأسباب التي يصل بها إلى إقامة المجتمع الصّالح القائم على العدل والإيمان، فقال: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا (38)} الأحزاب.
7.2.3- الحوار العقلي والجدال الفكري المنطقي في تدبّر الآيات، من أجل ايصال المعلومة للإنسان كما يلي:
7.2.3.1- لقد حاور القرآن الإنسان وجادله، واستعمل معه الحوار العقلي البسيط، والجدال السهل والمنطقي في التدرّج، المبنيّ على بديهيات معروفة، وحقائق مشاهدة ومحسوسة، ومسائل سهلة الاستيعاب، على مدى تفكيره وأدوات إدراكه. وقد بين سبحانه لعباده لكي يدركوا فلا يهلكوا، فبدأ يرشدهم إلى نفسه بالقراءة في خلق الكون، وبالتفكّر في أنفسهم وفي أصل خلقهم، قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)} العلق. ويجادلهم بحقيقة وحدانيته ببديهيّة بسيطة يسيرة، قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)} الأنبياء، وقال: {إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)} المؤمنون. وحاورهم عن قدرته على البعث وإعادة الخلق، قال تعالى: {أفعيينا بالخلق الأوّل بل هم في لبس من خلق جديد (15)} ق، وغيره الكثير.
7.2.3.2- القرآن حافل بالحوارات على مستويات شتّى:
7.2.3.2.1- حوار بين رسل الله عليهم السّلام وأقوامهم: كما نجد ذلك جلياً في حوار إبراهيم عليه السّلام مع قومه في سورة الأنعام، قال تعالى: {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ…. (80)} الأنعام، وفي سورة الأنبياء، وفي سورة الشعراء، وفي حواره مع أبيه في سورة مريم. وكذلك نجد ذلك في حوار شعيب مع قومه في سورة هود، وفي سورتي الأعراف والشّعراء وغيرها. ومثل ذلك في حوار موسى عليه السّلام مع فرعون في سورة الشعراء على وجه الخصوص، وفي سور أخرى.
7.2.3.2.2- وحوار الله سبحانه وتعالى مع الإنسان، يتجلّى في ردّ القرآن على أباطيل المشركين، قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} إلى آخر سورة يس، وقال: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)} الزّخرف، وفي الرّد على شبهاتهم، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26)} الأنبياء. وفي إقامة البراهين العقلية على ما ينكرونه من الوحدانيّة والبعث، وإرسال الرّسل مبشّرين ومنذرين، قال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)} الجاثية، وغيره.
7.2.3.2.3- حوار الله تعالى وملائكته: عندما أراد الله سبحانه خلق آدم واستخلافه في الأرض، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُون (33)} البقرة.
7.2.3.2.4- حوار الله جلّ شأنه، مع شرّ خلقه إبليس: كما تجلّى ذلك في سورة الأعراف، وسورة الحجر، وسورة ص، على ما في هذا الحوار من جرأة وتطاول من الّلعين إبليس، حتى سأل الله تعالى أن ينظره إلى يوم يبعثون، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)} صّ، فأنظره إلى يوم الوقت المعلوم، وقال تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} صّ.
7.2.3.2.5- وقد اعتبر القرآن الحوار وسيلة من وسائل الدّعوة مع المخالفين، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين (125)} النّحل. فالدّعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، مع الموافقين من أهل الملّة، أما الجدال بالتي هي أحسن، فيكون مع المخالفين. ومن روائع التّعبير في الآية أنّه اكتفى في الموعظة بأن تكون حسنة، لأنّها مع الموافق، أمّا الجدال، فلم يكتف إلا بأن يكون بالتي هي أحسن، لأنّه مع المخالف. وأمّا الكفّار فقد أمر بجهادهم بالكتاب جهاداً كبيراً، قال تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} الفرقان، وهو الحوار والإنذار بالكتاب، ومقابلةُ مجهودهم بمجهوده، فلا يهن ولا يضعف، وعبّر عن ذلك بالجهاد، وهو الاسم الجامع لمنتهى الطّاقة.
7.2.4- خطاب قلب الإنسان وعواطفه: لم يكتف القرآن بأن خاطب عقل الإنسان ثم حاوره، ولكن تعداه إلى خطاب الإنسان بكل مكوناته، عقله وقلبه وجسده، كما يلي:
7.2.4.1- لم يكل أمر الإيمان كلّه للعقل وحده، سواءٌ الإيمان بالله أو الإيمان باليوم الآخر، لأنّ العقل نفسه قاصر عن أن يعرف كيف يعمل هو ذاته. فالله الخالق العليم المقدّر يعلم أنّ للإيمان مداخل إلى أعماق نفس الإنسان غير العقل، فخاطب نفسه بلغاتها التي تفهمها، وخاطب عواطفه وأمانيه بطريقة فاعلة ومؤثّرة، تصل إلى مكامن النّفس كلّها، ولا تهمل واحداً منها يؤدّي إلى الإيمان، كما في هذه الآيات التي تخاطب نفس الإنسان الكافر المتكبّر وعواطفه، فتعيده إلى أصله وأنّه كان شيئاً حقيراً، وأنّه بعد ذلك ميّت ومقبور، فلا يتكبّر ويغترّ بهذا النّعيم والمتاع المؤقّت، فيسلبه تكبّره عقله ووعيه وقدرته على فهم الأمور على حقيقتها، قال تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)} عبس. وكذلك الآيات التّالية تعرض على النّاس في كلّ مرّة أحداثاً مألوفة، تتّصل بحياتهم ومعاشهم، وتلمس قلوبهم فتبصر آيات الحياة والموت والخلق والبعث، وعقولهم فتتفكّر في آيات التقدير والتدبير، وجوارحهم فتعاين فضل الله ونعيمه، وتسلك بآثارها طريقها هيّنة إلى نفوسهم، وهي توجههم إلى هذه الأحداث بعرضها عليهم كأنّها أحداث جديدة، دون الحاجة إلى التفكير العقلي المجرّد فقط، الذي يعتمد على المهارة، أكثر مما يعتمد على الحقيقة، قال تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)} الرّوم.
7.2.4.2- التّرغيب والتّرهيب: استخدم القرآن أسلوب التّرغيب والتّرهيب في مخاطبة عواطف الإنسان، لكي يقارن بين ما ينفعه وما يضرّه، فيختار لنفسه ما أراده الله له من أسباب الخير والسّعادة في الدّارين، ويفزع مما أعده الله للعاصين من أسباب العقاب والشّقاء في الدّنيا والآخرة. والإنسان مجبول بفطرته على حبّ ما ينفعه، وينفر من كل ما يضرّه، وأكثر وأعظم ترغيب استخدمه القرآن هو النّعيم بدخول الجنّة، وأكثر ترهيب هو العذاب بدخول النّار، قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ (15)} محمّد. وأسمى غايات المؤمن هي أن تعتدل رغبته ورهبته، ورجاؤه وخوفه، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} الأنبياء، وقال: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16)} السّجدة.
7.2.4.2.1- ويذكر المفسّرون أن غايته من الجمع بين أسلوب الترغيب والترهيب هو: تنشيط المؤمنين للطّاعات، وتثبيط الكافرين عن المعاصي. وأسلوب الترغيب والترهيب جاء على ثلاثة أساليب: أن يأتي في آية واحدة، كقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)} الأنعام. أو أن يأتي في آيتين، كقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)} الحجر، ثمّ قوله تعالى: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} الحجر. أو أن يأتي في مجموع آيات، كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)} الليل، ويقابله قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} الليل.
7.2.4.2.2- ومن موضوعات التّرغيب: الوعد بالجنّة وما فيها من نعيم مقيم، والوعد بالحياة الطيبة، وحسن العاقبة في الدّنيا والآخرة، ومغفرة الذّنوب والتجاوز عن السّيّئات، والزّيادة من الخيرات حال الاستقامة والشّكر والاستغفار، والنّصر والتّمكين والرّفعة والتّأييد والمدافعة، وغيره. كذلك ومن موضوعات التّرهيب: الوعيد بالخذلان ودخول النّار، والتّحذير من غضب الله ومن نقمته، وأنواع العذاب يوم القيامة، والخسران والهلاك والشّقاء في الدّنيا، وغيره الكثير.
7.2.4.2.3- ومن الأعمال التي رغّب بها القرآن: تقوى الله وطاعته والإنفاق والاستغفار وصلة الأرحام والأعمال الحسنة وعمل الخير والكلام الطيّب والقول الحسن والعفو والصّفح والتسامح وغيره. ومن الأعمال التي رهّب من إتيانها: إتّباع الهوى والكبر والظلم والغرور والفساد في الأرض والقتل والغيبة والتجسّس وسوء الظنّ والحسد والكذب وأكل أموال النّاس بالباطل وغيره الكثير.
7.2.4.3- الخوف والرّجاء في علاج الغرور والتّحريض على العمل:
والقرآن من أوّله إلى آخره {بَشِيرًا وَنَذِيرًا (4)} فصّلت، فيه تحذير وتخويف، يقابلها بشائر ووعد بالمغفرة، لأنّ رجاء النّاس هو سبب فتورهم، وسبب إقبالهم على الدّنيا، وإعراضهم عن الله تعالى، وإهمالهم السّعي للآخرة، فذلك غرور، لذلك قال تعالى: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} غافر، فعلى العبد أن يستعمل الخوف، فيخوّف نفسه بغضب الله وعظيم عقابه، ويستعمل الرجاء، فيرجوا عظيم وعد الله بمغفرة الذّنوب مهما عظمت، ولو كانت مثل زبد البحر. والخوف والرّجاء في القرآن باعثان على العمل، قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} الحجر. فالمؤمنون يواظبون على العبادات، و {يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)} المؤمنون، يخافون على أنفسهم، فيصِلون اللّيل والنّهار في طاعة الله، يبالغون في التّقوى والحذر.
7.2.4.4- تهييج العواطف في النّفس حتى تتقبل ما يمليه عليها العقل: فعواطف الإنسان ومشاعره، ليس لها عقل تفكّر فيه، والمقصود بها النّفس الأمّارة بالسوء، أي الجانب المادّي من النفس وليست كلّ النّفس. فهي تركن إلى الشّهوات وإلى النتائج العاجلة، ولو كانت ضد مصلحتها، وتؤثرها على الآجلة ولو كان فيه خيرها، قال تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)} النّحل. النّفس الأولى هي المعنوية، والثانية هي الذّات والجملة؛ والنّفس ثلاثة أقسام: {الْمُطْمَئِنَّةُ (27)} الفجر، و {لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ (53)} يوسف، و {اللَّوَّامَةِ (2)} القيامة. والنّفس الأمّارة بالسّوء، هي مطيّة الشّيطان يستخدمها لإضلال العقل، لذلك فإنّنا نجد أنّ نظام القرآن كلّه جار على نسق يُقدّم فيه بين يدي الحوار العقلي، تمهيداً نفسيّاً عاطفيّاً مثيراً ومنبّهاً، أو يُعقِّب على البيان العلمي والعقلي بخاتمة نفسية وعاطفية، ترغّب أو تحذّر النّفس من عواقب عدم انقيادها للعقل، مثل أن يُعقّب على حبّ النّاس للشّهوات، بقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ (14)}، بقوله تعالى بأنّ: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14)} آل عمران، فيقتنع العقل بهذا التعليق والحوار البسيط، ولا تقتنع النّفس حتى تُثار فتعلم أنّ هناك شهوات خير وأعظم مما عندها، فيُرغّبها بخيرات مضاعفة وأكبر وأفضل من تلك الشّهوات الفانية، وقال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)} آل عمران، فتثار النفس بذلك الخير المنتظر، وتقتنع بما يمليه عليها العقل، وتزهد في هذه الشّهوات الدّنيوية المؤقتة طمعاً بما هو عند الله الذي جعل أعظم منها في الآخرة. ومثلُه أيضاً حال المؤمن في سورة يس، قال تعالى: {إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)}، فقيل له في شطر الآية التي تليها: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ (26)}، وهذه النتيجة منطقيّة ومقبولة عقلياً، لأنّه آمن فدخل الجنّة، لكنّها لا تؤثّر في النفس؛ أما ما يؤثّر في النّفس فهو الحسرة والشّفقة على جهل هؤلاء القوم، في شطر الآية الثاني، قال تعالى: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)}، هذا الجهل الذي أعمى بصائرهم عن أن يكونوا مغفوراً لهم منعّمين مع غيرهم في كرم الله يوم القيامة، ومع الفائزين المكرمين، قال تعالى: {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)}. فالنّفس لا تحبّ أن يقال عنها أنّها لا تعلم، أو أنّها كانت أقل حظّاً من غيرها في كرم الله العظيم، فيثيرها هذا الوصف، فترضخ لحجّة العقل الذي يملي لها باتّباع العلم والإيمان حتى تفوز بكرم الله وفضله.
7.2.5- الإنفاق والقتال في سبيل الله:
لقد جعل القرآن للنّاس علاجين حاسمين، هما: إنفاق المال والقتال في سبيل الله، من أجل علاج اثنين من الأمراض المزمنة التي تصيب كلّ المجتمعات الإنسانية على مرّ العصور؛ الأول، البخل وكنز المال، والثاني، الفساد وسفك الدّماء في الأرض؛ وهما علاجان صعبان شديدان على النفس لأنّ الأول فيه التضحية بالمال، والثاني فيه التضحية بالنّفس.
إنّ الإنفاق والقتال في سبيل الله هما واجبان فرضهما الله تعالى، والله أعلم، من أجل تهذيب الغرائز الحيوانية في الإنسان ومحاربة شرائع الغاب التي يصنعها لنفسه ويتبعها غالباً بسبب ظلمه وجهله؛ وذلك عن طريق إزالة المظالم والتخلّص من أخلاق الشّر والفساد المتأصّلة في فطرته، ففيه جبلّتي الخير والشّر معاً، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها} الشمس.
الإنسان كباقي الحيوانات فيه صفات الخير وصفات الشّر معاً، لكنه تميّز عنها بوجود العقل كما بيّناه؛ فإذا استخدم الإنسان عقله كما يجب، فسيختار العدل والصّلاح المتمثّل في اتّباع الدّين وإقامة شرائع الله، أمّا إذا اتّبع هواه فسيفسد في الأرض ويسفك الدماء، قال تعالى: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء (30)} البقرة. لأجل هذا جعل القرآن هذين العلاجين الشّافيين بإذن الله: الأول التضحية بالمال، والثاني التضحية بالنّفس، وجعلهما من أعظم القربات عند الله تعالى وثوابهما من أعظم الثّواب. وقد اجتمع أمر الله في هذين التّكليفين، في آية واحدة، مصحوباً ببيان عظيم ثوابهما في الدّنيا والآخرة، وبالتّوبيخ على عدم فعلهما؛ لأنّ المال سيبقى للورثة، والموت قادم لا محالة، في قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)} الحديد، أي: أيّ شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله، وفيما يقربكم من ربكم، وأنتم تموتون وتخلفون أموالكم، وهي صائرة إلى الله تعالى: فمعنى الكلام التوبيخ على عدم الإنفاق، وأنّ مَن أنفق من قبل فتح “مكة” وقاتل الكفّار، أعظم درجة عند الله من الذين أنفقوا في سبيل الله من بعد الفتح وقاتلوا الكفّار، وكلّاً من الفريقين وعد الله الجنّة، والله بأعمالكم خبير لا يخفى عليه شيء منها، وسيجازيكم عليها.
فالإنفاق هو حلّ لمشاكل كثيرة مهلكة، وعلاج لأمراض البخل وكنز المال، الذي هو سبب في هدم المجتمع. وأمّا القتال فهو علاج لأمراض الفساد وسفك الدّماء، وفيه فتح الأبواب لإقامة العدل والحريّة لكلّ النّاس، في الحياة الآمنة، والعمل الحرّ، وحفظ الحقوق، وإقامة شعائر الدّين، مصداقاً لقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا (75)} النّساء، نسأل الله السّلامة، كما يلي:
7.2.5.1- الإنفاق في سبيل الله:
إنّ أوّل شيء سيندم عليه الإنسان عند حضور الأجل، لتفريطه به، وسيتمنّى أن يؤجل في عمره وأن يعود إلى الدّنيا حتى يؤديه هو التصدّق، قال تعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10)} المنافقون. وأنّ عدم الإنفاق في سبيل الله هو من أسباب الهلاك للأمم والأفراد في الدّنيا الآخرة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35)} التوبة، وقال: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} البقرة؛ فالامتناع عن الإنفاق هو إلقاء بالأيدي إلى التّهلكة. ومن إعجاز القرآن الكريم أنّ آياته تفهم على وجوه شتّى، فتفهم على أنّها إنفاق على الإعداد للقتال، وتفهم على أنّها إنفاق على الأسرة، وعلى التّعليم، وإطعام المسكين، وغيرها من وجوه الإنفاق التي لا تحصى؛ وفي المقابل فإن الإنفاق في سبيل الله أجره عظيم ويضاعف أضعافاً كثيرة إلى سبعمائة ضعف أو أكثر، فقال تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} البقرة.
والآيات التي تتحدّث عن الإنفاق كثيرة جداً، منها قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)} البقرة، وقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)} سبأ. أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم الله به وأباحه لكم، فهو يخلفه عليكم في الدّنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثّواب. ومن معاني الإنفاق أيضاً: الزّكاة، وذكرت في القرآن اثنتان وثلاثون (32) مرّة، والتّقديم سبع وعشرون (27) مرّة، والصّدقة أربع وعشرون (24) مرّة، والإطعام ثلاث وعشرون (23) مرّة، والعطاء ثلاث عشرة (13) مرّة، والقرض اثنتا عشرة (12) مرّة، والقربان ستّ (6) مرّات، والإكرام مرّتان (2). وكثيراً ما ارتبطت الزّكاة والإنفاق بالصلاة: فوردت الصّلاة مصحوبة بلفظ الزّكاة في ستّ وعشرين (26) موضعاً، وثماني (8) مرات جاءت مصحوبة بأحد مشتقات الإنفاق، وكثرة ارتباط الصّلاة بالزّكاة والإنفاق فيه دلالة على شرف وفضل كلیھما على سائر العبادات، لكونھما قرینتا الإیمان، والركنان العظيمان فیما یتعلّق بالأبدان والأموال.
وكذلك الأحاديث التي تأمر بالإنفاق كثيرة، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: “مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا” متفق عليه، وقوله: “من نَفَّسَ عن مؤمن كُربةً من كُرب الدنيا، نفّس اللَّهُ عنه كُربةً من كرب يوم القيامة” متفق عليه، وقوله: “قَالَ اللَّهُ أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ” البخاري، وقوله: “إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقولُ يَومَ القِيامَةِ: يا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قالَ: يا رَبِّ كيفَ أعُودُكَ؟ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ، قالَ: أما عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أما عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قالَ: يا رَبِّ وكيفَ أُطْعِمُكَ؟ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ، قالَ: أما عَلِمْتَ أنَّه اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أما عَلِمْتَ أنَّكَ لو أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذلكَ عِندِي، يا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ، فَلَمْ تَسْقِنِي، قالَ: يا رَبِّ كيفَ أسْقِيكَ؟ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ، قالَ: اسْتَسْقاكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أما إنَّكَ لو سَقَيْتَهُ وجَدْتَ ذلكَ عِندِي” رواه مسلم.
فالإنفاق هو حلّ لمشاكل كثيرة مُهلكة، وقد كان البخل وكنز المال السبب الرئيسي في هلاك الأمم كعاد وثمود وفرعون وغيرهم، قال تعالى: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)} إلى قوله: {كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)} الفجر؛ وقد بيّنا موضوع الإنفاق بالتّفصيل في الأماكن التّالية من كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن:
7.2.5.1.1- انظر سورة البقرة: 002.7.6.3.1- وأهم موضوع في المعاملات هو الذي ابتدأت السورة بذكره وهو الإنفاق في سبيل الله.
7.2.5.1.2- انظر سورة الحديد: 057.8.7- الإنفاق في سبيل الله.
7.2.5.1.3- سورة الليل كلّها، وسياقها حول موضوع إنفاق المال والبخل: انظر مقصدها 092.4.1- تأكيد هدي الله وسنته في إنفاق المال لتزكية النفس، وسعي الناس المختلف والمتباعد في ذلك. 092.7.4- سياق السورة باعتبار مقصدها وهو المال والإنفاق أو البخل.
7.2.5.1.4- انظر سورة الهمزة (104.4.1): التي مقصدها: حول الخزي والويل والعذاب للبخيل الذي يكنز المال.
7.2.5.2- القتال في سبيل الله:
كما بيّنا كذلك (في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن) أنّ الله فرض على النّاس القتال لعلاج مشكلات وأمراض مزمنة في المجتمعات وبين الأمم، ومن ذلك ضرورة الدفاع عن النّفس واسترداد الحقوق ومحاربة الجهل، وتخليص النّاس من الفساد، وقتل القتلة والظّالمين. فالظّلم والقتل والجهل والفساد صفات متأصّلة في جبلّة الإنسان وليست طارئة، أي أنّها من صفات وأخلاق الإنسان الكامنة في طبعه، وهي من أخلاق الشرّ التي يقابلها أخلاق الخير، وكلاهما كامن في الإنسان يختار منهما بعقله وقلبه وشهوته ما يشاء، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} الشمس، وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} الزّلزلة.
ومن أخطر الدّروس وأدقّها في شرع الإسلام، هي القتال في سبيل الله من أجل الدّفاع عن الحقّ والعدل والحرّيّة. فالقتلة أو الظّلمة والمفسدون هم من بدأوا بالقتل، فليس من الحكمة والعقل أن يُمنعَ أهل الحق من الدّفاع عن أنفسهم، أو حتى قتال القتلة. فهل يباح (يحلّ) للقاتل أن يستمر في غيّه وظلمه وقتله ويُمنع (ويُحَرّم) ذلك على المؤمنين؟ فأين العدل إذاً؟ قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)} النّساء.
لقد تميّز الإنسان عن المخلوقات الأخرى بالعقل الرّشيد المتعلّم، الذي يرشده إلى اتّباع الهدى والصّلاح، ويتعلّم بالوحي من الله وبالعمل والتجربة، ثمّ بعد ذلك إمّا يصطبغ بأخلاق الخير أو بأخلاق الشّر، ومن النّاس من يبلغ بهم الكفر والشر مبلغاً لا يفيد معه الوعظ ولا الإنذار، ومنهم من يبلغ به الخير والإيمان مبلغاً لا يبالون مقابله بفقد أرواحهم، قال تعالى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)} المائدة، كما بيّناه في قصص القرآن. وقد جعل الله العلاج والدواء لأخلاق السّوء المذكورة هنا، العدل وإحياء النفس وطلب العلم والعمل الصّالح، وهي صفات أصيلة في تكوين الإنسان، ولهذا تميّز الإنسان عن باقي المخلوقات بالعلم والزّكاة؛ أي أنّ الله تعالى أمر الإنسان بالعلم بعد أن أراه ظلمة الجهل، وأمره بالعدل لإزالة الظّلم، وإحياء النّفس والقصاص من القتلة، وبالعمل الصّالح والنهي عن الفساد. وقد فطر الله الإنسان على حبّ العلم والعدل والحياة والصّلاح، وكلّ صفات الكمال، قال تعالى: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)} الحجرات، وكما قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي بعد أن سأله عن الدّين الذي فارقوا فيه قومهم: “أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، وَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْنَا رَسُولا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفُحْشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنَّ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ، …. إلى آخر الحديث”. أي أنّ نفس النّاس الذين كانوا من شرار خلق الله ينتهكون الحرمات ويسفكون الدماء، انقلبوا بالإسلام إلى الصّدق والأمانة وصلة الأرحام والكف عن الدماء إلخ. فالإسلام هو دين علم وسلام، وتهذيب للنّفس، وزكاة في العمل، ونهي عن الفساد، وما فُرض فيه القتال إلا لضرورة الدّفاع عن النفس، وقتال المعتدين والظالمين، كما أشرنا إليه، في كتاب “تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن”.
7.2.5.2.1- فالقتال أمر فطري طبيعي في الإنسان وكل الكائنات الحيّة فرادى وجماعات، تقتضيه ضرورة الدّفاع عن النّفس والمال والعرض والدّين، فالفرد يدافع عن نفسه وربّ العائلة عن عائلته والحاكم عن رعيّته، وهو علاج لمشكة وهي الحفاظ على حياة النّاس بالقضاء على القتلة ولإزالة الظّلم كما في آية القِصاص، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} البقرة، وفي نصرة المستضعفين، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) النّساء. وفي الحديث الصحيح عن سعيد بن زيد قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ” رواه أحمد والنسائي والترمذي، ويجب ترك القتال في الفتن بين المسلمين واختلافهم. وللمزيد من التفصيل عن القتال في سبيل الله انظر ما فصلناه عنه في مكانه الذي ذكر فيه في القرآن: انظر في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، ما يلي:
سورة آل عمران 003.7.6- موضوعات أخرى مهمة، وهي الإنفاق والقتال في سبيل الله.
سور النساء 004.7.8- سياق السورة باعتبار موضوع القتال والجهاد في سبيل الله.
سورة التوبة (009.7.6- لماذا فرض الجهاد والقتال في سبيل الله، كما بينته السورة؟؛ 009.7.7- إفساد الإنسان وتعطشه للظلم وسفك الدماء؛ 009.8.6- القتال في الإسلام)
سورة محمد 047.7.4- سياق السورة باعتبار موضوع القتال ومناسبة نزولها.
سورة الممتحنة 060.8.4- القتال (الجهاد) في الإسلام: تشريع القتال في الإسلام مرّ بأربعة مراحل.