العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)
002.0 سورة البقرة
ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا
002.1 التعريف بالسورة:
1) سورة مدنية. 2) من السور الطول. 3) عدد آياتها 286 آية. 4) السورة الثانية من حيث الترتيب في المصحف. 5) والتسعون حسب ترتيب النزول، وهي أول سورة نزلت بالمدينة. 6) أسماء أخرى للسورة: تسمّى فسطاط القرآن: لما جمع فيها من الأحكام التي لم تذكر في غيرها، وتسمّى سنام القرآن: وسنام كلّ شيء أعلاه. وتسمى هي وآل عمران الزهراوين. 7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:
002.1.7.1- لفظ الجلالة {الله} تكرر 269 مرّة، {لله} 17 مرّه، أي بمجموع 286 مرة مقارنة بعدد آيات السورة وهي 286 آية، وذكرت {إله} مرتين. وهو متناسب مع احتواء السورة على الكثير من أحكام الحلال والحرام، مما يتطلب وجود صفة الإله التي تتضمن كل صفات الترغيب والترهيب. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.
002.1.7.2- أما مجموع أسماء وصفات الله الأخرى المكررة في السورة فهي: رب 48 مرّة، عليم 21 مرّة، أنزل 15 مرّة، رحيم 12 مرّه؛ وتكررت (9 مرّات): هو، أنعم؛ (8 مرّات): غفور، يَعلَم، يبين؛ (7 مرّات): حكيم، سميع؛ (6 مرّات): قدير، عزيز، فضل؛ (5 مرّات): بصير، يُعلّم؛ (4 مرّات): تواب، واسع، يهدي، خلق، بعث؛ (3 مرّات): يحب، حليم، ذو فضل، أعْلَم، شديد (العقاب/العذاب)، هَدى، أحيا، مخرج؛ (2 مرّة): واحد، خبير، غني، رؤوف، بارئ، يريد، يحكم، مبتلي؛ (1 مرّة): محيط، شاكر، رحمن، سريع، بديع، العلي، العظيم، حميد، عفو، يغفر، القريب، الحي، القيوم، الولي، المولى. وهذه الصفات تشير إلى العلم والقدرة والحكمة والرحمة والمغفرة؛ ومنها أيضاً: كافي، دفع الله، يبسط، يقبض، عدو للكافرين، بلاء، يفعل، يحاسب، كتب.
002.1.7.3- تكرر ذكر أسماء الأنبياء عليهم جميعاً الصلاة والسلام: إبراهيم 13 مرّة، موسى 13 مرّة، إسماعيل 5 مرّات، يعقوب 4 مرّات، إسحاق 3 مرّات، عيسى 3 مرّات، الأسباط 2 مرّة، هارون 1 مرّة، داوود 1 مرّة.
002.1.7.4- وهي أكثر سورة تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: علم 76 مرّة من أصل 484 مرّة تقريباً موجودة في القرآن كله؛ وكلمة تقوى 35 مرّة من أصل 199 مرة تقريباً موجودة في القرآن؛ وكلمة هدى 31 مرّة من أصل 256 مرّة تقريباً موجودة في القرآن؛ الذين آمنوا 26 مرّة من أصل 220 مرّة موجودة في القرآن؛ وكلمة حق 24 مرّة من أصل 285 مرّة تقريباً موجودة في القرآن؛ وكلمة العداوة 20 مرّة من أصل 103 مرّة في القرآن؛ وكلمة معروف 15 مرّة من أصل 38 مرّة في القرآن؛ وكلمة الحرام 14 مرّة من أصل 83 مرّة في القرآن؛ وكلمة ويسألونك 6 مرّات من أصل 13 مرّة موجودة في القرآن.
وهذا فيه إشارة إلى أن هذه السورة معنيّة وتركز على التعليم، والهدى، والتقوى. أي تعليم يخص وجود الإنسان، وحاجته إلى المعرفة ليهتدي، وهدى إلى صراط المنعم عليهم، وتقوى من الله تقي من غضبه وعقابه. وفي عمدة الحفاظ للحلبي: يقال اتقى فلان بكذا: إذا جعله وقاية لنفسه. وقوله تعالى: {لعلكم تتقون (21)} البقرة، أي لعلكم أن تجعلوا ما أمركم به الله وقاية بينكم وبين النار.
002.1.7.5- الناس تكررت 38 مرة من أصل 230 مرة موجودة في القرآن كله. آمن ومشتقاتها 56 مرة من أصل 606 مرة موجودة في القرآن كله. بني إسرائيل تكررت 6 مرة من أصل 41 مرة موجودة في القرآن كله. الكتاب 27 مرة من أصل 230 مرة موجودة في القرآن كله.
002.1.7.6- كما تكررت كلمة لعلكم 13 مرّه مع الكلمات: تشكرون 3 مرّات، تتقون 3 مرّات، تهتدون 2 مرّة، تعقلون 2 مرّة، تتفكرون 2 مرّة، تفلحون 1 مرّة. وكلمة لعلهم 3 مرّات مع الكلمات: يرشدون، يتقون، يتذكرون. تكررت يا أيها 13 مرّة مع الكلمات الناس 2 مرّة، الذين آمنوا 11 مرة.
002.1.7.7- تكررت الكلمات التالية ومشتقاتها: ذكر 19 مرّة، عقل 9 مرّات، شكر 6 مرّات، رحمة 6 مرّات، فكر 2 مرّة.
002.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال “لكلّ شيء سنام وإنّ سنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيّدة آي القرآن، آية الكرسيّ”. وعنه أن رسول الله عليه الصلاة السلام قال: “لا تجعلوا بيوتكم قبوراً فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان”. وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: “اقرؤوا القرآن فإنّه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه. اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صوافّ، تحاجّان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة فإنّ أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة”. وعن أبي ذر رضي الله عنه، أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: “إنّ الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيها من كنزه الذي تحت العرش، فتعلّموهن، وعلّموهنّ نسائكم وأبنائكم، فإنها صلاة ودعاء وقرآن”.
وفي جامع الأصول لابن الأثير ورد في بعض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سورة البقرة: “إن كادت لتستحصي الدين كله”. وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في شعب الإيمان عن عمر بن الخطاب قال: من قرأ البقرة وآل عمران والنساء كتب عند الله من الحكماء.
002.3 وقت ومناسبة نزولها:
السّورة في أغلبها نزلت في السنتين الأوليين من هجرة الرسول عليه السلام الى المدينة. بعض الآيات نزلت في مرحلة متأخرة وألحقت بالسورة، مثل آيات تحريم الربا والتي نزلت في مرحلة متأخرة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك آخر ثلاث آيات في السورة (284-286) فقد نزلت في مكة قبل الهجرة إلى المدينة.
نزول السورة في بداية العهد المدني يؤكده مقصدها وموضوعاتها، فهي تؤسس لهذا العهد. إذ تتناول دين الإسلام بكل أركانه وكل ما فيه من عبادات وأحكام وحدود، وتفصِّل في أصول التشريع، وتضع قواعد المجتمع، وتفضح الكفار والمنافقين وتكشف كيدهم ومكرهم وسوءاتهم وتجادلهم وتدعو إلى القتال في سبيل الله.
002.4 مقصد السورة:
002.4.1- مقصد السورة هو: بيان طريق الهدى وهو {الصراط المستقيم}، ببيان أركان الإسلام وأركان الإيمان وأحكام (المعاملات في) الشريعة.
002.4.2- مقصدها نجده في الآيتين الثانية والثالثة، أو على الأوسع في الآيات الخمسة الأولى من السورة، والآيات كأنها استجابة للدعاء {اهدنا الصّراط المستقيم} الذي ورد في سورة الفاتحة، فتجيب بأن طريق الهداية موجود في الكتاب، {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتّقين (2)}، ثم تذكر أعمالهم: أنهم يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقهم الله ينفقون، وانتهت ب {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}.
كذلك السورة بأكملها تبين طريق الهدى وهو {الصراط المستقيم} بكل خصائصه ومميزاته، وفيها البشارة بفوز سالكيه وفلاحهم ترغيباً باتباعه؛ وفيها بيان طرق المغضوب عليهم والضالين ومصائرهم تحذيراً من اتباع أفعالهم؛ وتبين اختلاف الناس، باعتبار الإيمان إلى ثلاث فئات: مؤمنون وكافرون ومنافقون. ولأن الله عليم بالناس، فهو خالقهم، رحيم بهم، يعلم اختلاف درجاتهم في الفهم والتعلّم، ومن أجل تسهيل فهم المقصد للإنسان العادي، كما للمتخصص والمتعلّم، جعل بيان الهدى في هذه السورة نصفين: النصف الأول استخدم فيه أسلوب الخبر بالحكمة والموعظة الحسنة والتذكرة بنعمة الله بالإسلام والإيمان والتشريع العادل في المعاملات، انظر أدناه “سياق السورة باعتبار موضوعاتها”؛ والنصف الآخر استخدم فيه القصة من تجارب الإنسان والمثل المألوف وآيات الله في الكون: فذكرت السورة في 125 آية من آياتها قصص وأمثلة وأحداث حقيقية من تجارب الإنسان نفسه تحكي حقيقة أفعال ومصائر هذه الفئات الثلاثة، وكأنها رأي العين، لمن أراد أن يعتبر؛ وإذا أضفنا إليها استخدامها المثل المألوف لتقريب المعنى في 18 آية؛ والإشارة إلى آيات الله في الكون لبيان وحدانية الله وكمال صفاته في 5 آيات، يصبح عددها 148 آية أي أكثر من نصف عدد آيات السورة قصص وأمثال وآيات. انظر أدناه “سياق السورة باعتبار القصص والأمثال والآيات”، وقد حافظ القرآن على هذه النسبة بعدد الآيات تقريباً، وسار في مجمله على نفس هذا الأسلوب الخبري والقصصي، كما أشرنا إليه وبيّناه في المقدّمة.
وطريق الهدى لن يهتدي إليه إلا المتقون. المتقون هم الذين يخافون الله ويتبعون أحكامه. وكلمة {للمتقين} تعني: الصائرين إلى التقوى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي لاتقائهم بذلك النار، أو الصائرين إلى الهدى بامتثال الأوامر والمتقين النار (عقاب ربهم) باجتناب النواهي. والهدى والتقى هما صفتين متلازمتين لمن هداه الله إلى الصراط المستقيم، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول “اللهم! إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى”. ثمّ أن التقوى هي صفة المهتدي، التي تلازمه من بداية الطريق وهو الإسلام، وتبقى زاده التي أمره الله أن يتزوّد بها، قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)} البقرة، حتى يصل إلى أعلى درجات الإيمان والعبادة وهي درجة الإحسان.
ذكر الله تعالى المتقي في مقدمة السورة في معرض المدح، ليبين أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا بالكتاب، فآمنوا بقلوبهم وعملوا بجوارحهم، فاستحقوا الفلاح. ولا يلزم من كون الكتاب هدى أن يكون مفضياً إلى الاهتداء، بدليل أن هناك أناس ذمّتهم السورة لأنهم اتبعوا الضلالة أو اشتروا الضلالة بالهدى: وهم الكافرون الذين لا يؤمنون فهم مختوم على قلوبهم، والمنافقون المخادعون فهم في قلوبهم مرض. انظر أيضاً معنى الهدى في تسهيل فهم وتدبّر القرآن: في الفصل 4.1- مقصد القرآن الكريم هو هداية الثقلين الإنس والجن إلى الحق وإلى الطريق المستقيم.
002.4.3- وقال الإمام برهان الدين البقاعي ما مفاده: أن مقصدها إقامة الدليل على أن الكتاب {هدى} ليتبع في كل ما قال. وأعظم ما يهدي إليه الإيمان بالغيب، ومجمعه الإيمان بالآخرة والبعث. وهذا الكتاب فينا كما لو كان فينا رسول يرشدنا الصواب في كل أمر، فمن أعرض عنه خاب ومن أجاب اتقى وأجاد.
002.5 ملخص موضوعات السورة:
سورة البقرة هي أطول سورة في القرآن، وهي تدعو إلى الهدى، وتعني بجانب التشريع شأنها كشأن سائر السور المدنية، وهي أجمع سور القرآن للأحكام والأمثال ولهذا سميت في أثر: فسطاط القرآن الذي هو: المدينة الجامعة فناسب تقديمها على جميع سوره. وفيها بيان أركان الإسلام الخمس وأركان الإيمان الست والضروريّات من المعاملات التي تدور عليها أحكام الشريعة، ونصف عدد آياتها قصص تحكي عن بداية التكليف وعن كفر اليهود وعن إيمان إبراهيم عليه السلام وغيرها من القصص والأمثال التي تسهل فهم موضوعاتها. وبدعوتها إلى الهداية تدور السورة بكلّ قصصها وأحداثها وتعليماتها حول المواضيع التالية:
002.5.1- الثلاثون آية الأولى فيها كل شيء يخص الهدى والصراط المستقيم ثم قصة خلافة آدم، كما يلي:
002.5.1.1- الآيات (1-20) مقدمة تبين فيها أن الهدى في الكتاب، وهي للمتقين، الذين يؤمنون ويقيمون الصلاة وينفقون، أي يعبدون الله، وأن الناس في قبولهم الهدى ينقسمون إلى ثلاثة فئات: المؤمنون والكافرون والمنافقون.
002.5.1.2- الآيات (21-29) خلقهم ليعبدوه، فأمرهم بما خلقوا لأجله وهو العبادة، (للمزيد حول موضوع العبادة انظر في تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.3.2.4.2- عبادة الله؛ وانظر سورة الزمر: 039.0، والتي مقصدها وموضوعاتها حول أمر الله الناس بالعبادة، وأن العبادة هي لمصلحتهم أولاً وأخيراً، وأن الله غني عنهم؛ وانظر كذلك سورة نوح: 071.0، والتي مقصدها وموضوعاتها حول وجوب أن يعبدوا الله وحده ويتقوه ويطيعوا رسوله)، وقبل أن يأمرهم بالعبادة فيتقوه، هيأ لهم الوسائل والأسباب كما يلي:
002.5.1.2.1- جعل الأرض فراشاً والسماء بناءاً وأنزل الماء وأخرج الرزق.
002.5.1.2.2- وأرسل الرسول وأنزل القرآن المعجزة (انظر أيضاً سورة الأعراف: 007.7.4- رسالة واحدة من إله واحد بدين ورسول واحد إلى أمة واحدة)
002.5.1.2.3- وحذرهم من العقاب وبشرهم بالثواب (انظر أيضاً “تسهيل فهم وتدبّر القرآن”: 7.2.4.2- الترغيب والترهيب؛ و 4.2.8.2.3- الترغيب والترهيب بالثواب والعقاب عن طريق تأكيد وإثبات البعث والحساب؛ ونفسه هنا في 002.7.7)
002.5.1.2.4- وضرب لهم الأمثال (انظر أيضاً “تسهيل فهم وتدبّر القرآن”: 7.1.4- ضرب الأمثال في القرآن؛ و 5.1.2.2- السور (الرعد، إبراهيم، الحجر، النحل، الإسراء، الكهف) تبين بالقصص وضرب الأمثال أنه باتباع الحق والهدى ينعم الله على الناس).
002.5.1.2.5- وأمر بالإصلاح ونهى عن الفساد.
002.5.1.2.6- بين لهم وسائل الإيمان، ولماذا عليهم ان يؤمنوا، وباختصار: تفكروا ولا تكفروا كنتم أمواتاً فأحياكم وأنتم الآن ترون كيف خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون.
002.5.1.3- الآيات (30-39) لماذا الإنسان، من دون كل المخلوقات، يعبد الله اختياراً وليس جبراً كغيره؟ والجواب هو أن الإنسان اختار هذا لنفسه، بما أُودِعَ فيه من صفة التعلم والإبداع ما يؤهله ليكون خليفة الله على الأرض، وهي ميزة ليست في الملائكة ولا المخلوقات الأخرى التي لم تقبل حمل الأمانة، قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ (72)} الأحزاب. خلق فيه ميزتان الأولى أن الله فضّله بالتعلّم فيرقى ويتميّز على غيره، ويتعلم بالتلقين المباشر افعل أو لا تفعل. والثانية أنه يخطئ ويخالف ما تعلّم أن فيه صلاحه، ويأتي ما فيه ضرره، فيكافأ على الخير بالبقاء في رحمة الله ونعيمه، ويعاقب على الشر حتى يتوب، فيتوب الله عليه بعد أن يؤدبه بالعقاب المكافئ لذنبه. فمن يتبع الهدى فلا خوف عليه ومن يكفر ففي النار. وبهذه الميّزات أي التعلم والخطأ والتوبة، والعقاب والثواب، تتكرر تجارب الإنسان فيزكوا حتى يصل إلى تكريم عظيم لا يصله أحد من مخلوقات الله وفوق تكريم الملائكة، أو يدسوا إلى أسفل سافلين، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} سورة الشمس. وقصة جعل آدم خليفة، التي في هذه الآيات، هي أوّل تجارب الإنسان في الخطأ والتوبة، والعقاب والثواب، كانت في الجنة، عصى آدم ربّه ثم تاب، فتاب عليه، وعاقبه بالخروج من الجنة، والهبوط إلى الأرض، (انظر أيضاً التدريب على الإيمان بالعقاب والثواب، في تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.3.1.4- كذلك سعادة الإنسان بأنه يتعلم من أخطاءه بالتجربة، فيرى الثواب والعقاب فوراً؛ وكذلك تتكرر كثيراً قصص التدريب على الإيمان بالثواب والعقاب كما في سورة الكهف وغيرها).
تبين هذه الآيات أن الله جعل الإنسان خليفة، فعلمه الأسماء كلها، وأن الشيطان مخلوق آخر مكلّف بالعبادة اختياراً وليس جبراً، حسد الإنسان على تكريم الله له، فعصى أمر الله له بالسجود وأبى واستكبر، وناصب الإنسان العداء. ولأن الله يريد أن يسعد الإنسان أدخله الجنة وأمره ابتلاءاً ألا يقرب شجرة واحدة في الجنة. ولأن الإنسان متعلم مبدع يسعى بفطرته إلى الكمال، أخطأ بسعيه إلى الخلود بالمعصية، فعصى أمر ربه بإغراء كاذب من الشيطان فأكل من الشجرة. فتاب وتاب الله عليه بعد أن عاقبه فأهبطه إلى الأرض.
002.5.2- الآيات (40-141) بعد البيان الكافي الشافي عن ما هو الهدى، وهو العبادة لله وحده المنعم صاحب الفضل الذي خلق الإنسان ليرحمه ويسعده، وأن من يتبع الهدى يبقى في أمان الله ونعيمه، ومن يكفر ففي العذاب. يرينا الله تعالى مثالاً من قصة بني إسرائيل مع الهدى، بأن أنعم الله عليهم أولاً ثم أمرهم بالإيمان والعمل الصالح أي العبادة، كما يلي:
تتلو علينا الآيات قصص من أنباء الغيب فيها درس عملي من تاريخ بني إسرائيل الذين ابتعدوا عن كتابهم حتى خرجوا منه وأضاعوه (أكثر من ثلث السورة حول هذا الموضوع)، ثمّ محاولة ردّهم للمسلمين عن دينهم. وتوجيه المسلمين بألا يفعلوا مثل فعلهم، بل يتمسكوا بكتابهم ويحافظوا عليه، لكيلا يحلّ عليهم غضب الله الذي حلّ ببني إسرائيل {تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون (141)}.
002.5.3- الآيات (142-283) بعد استيعاب المسلمين للدروس من قصص خروج آدم من الجنة، وكفر بني إسرائيل، وإيمان إبراهيم عليه السلام وذريته، تبدأ السورة ببيان طريق الهدى والتقى، بدءاً بالقبلة، ثم توجيه التعليمات، أي الأوامر والنواهي والبشائر والنذر، لكي يهتدوا إلى الصراط المستقيم، ويصيروا مؤهلين ومستعدّين لخلافة الأرض. تعرض هذه الآيات الأحكام والتشريعات اللازمة في الصلاة والحج والصيام والزكاة والقتال وغيرها، وتبيّن للمسلمين أركان الإسلام وأركان الإيمان والسنن والشرائع والقوانين التي انزلها الله ليقام بها مجتمعهم الصالح ودولتهم الجديدة التي ستقوم على الإيمان الطوعي وعدم الإكراه، قال تعالى: {لا إكراه في الدّين (256)}، وبيان اختلاف الناس مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم على كلّ ما انزله الله من أوامر وتشريعات، واهتداء وإيمان بعضهم، قال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله (285)}. (حوالي نصف السورة حول هذا الموضوع، انظر أيضاً التفاصيل أدناه، في الفصل: 002.7.8- سياق السورة باعتبار ترتيب آياتها).
002.5.4- الآيات (284-286) خلاصة وخاتمة: بعد بيان أركان الإسلام وأركان الإيمان وغيرهما من الأحكام والشرائع، وبعد أن كادت السورة لتستحصي الدين كله، بالخبر والتجربة والدليل، تؤكد في آية واحدة على أن لله ما في السماوات وما في الأرض، ثم تختم بآيتين من كنز الله الذي تحت العرش: أنه قد آمن الرسول والمؤمنون، وأنه لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها، والنتيجة أن كل نفس محاسبة على ما كلفت به من الإيمان والهدى.
002.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:
002.6.1- مقدمه: وفيها بيان طريق الهدى وأنواع الناس الثلاثة ثم الدعوة إلى تطبيق الهدى (وهو العبادة):
002.6.1.1- الآيات (1-29) افتتحت سورة البقرة بإنزال الكتاب الذي {فيه هدى للمتقين}، ثم بينت أصناف الناس الثلاثة في استجابتهم للهدى، وهم المؤمن، والكافر، والذي اشترى الضلالة بالهدى، ثم أمرت بالعبادة.
ذكرت السورة هذا الهدى، والإيمان، واستجابة الناس، والعبادة، قبل ذكر خلق الإنسان والأرض في الآيات (21 و 22)، وقبل ذكر قصة خلق آدم في الآيات (30-39)، وأن الله سبحانه خلق له {ما في الأرض جميعاً (29)} ليستعين بها على تطبيق الهدى والذي هو العبادة {يا أيها الناس اعبدوا ربكم (21)}. فالأصل والسبب الوحيد الذي خلق الإنسان لأجله هو عبادة الله، لهذا افتتحت السورة بالكتاب. أما الأرض فهي تابعة لخلق الإنسان للعبادة {الذي جعل لكم الأرض فراشاً (22)} الآية، أي: هي مستقرّ مؤقت ومتاع المسافر {ولكم في الأرض مستقرّ ومتاع إلى حين (36)}.
فالعبادة هي الأصل وخلق الجن والإنس تبعاً لها، هذا في الآية: {كيف تكفرون باللّه وكنتم أَمواتاً فأَحياكم ثمّ يميتكم ثمَّ يحييكم ثمَّ إِلَيه ترجعون (28)}، أي: تعجيب من أمرهم، كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره! وقد كنتم عدماً فأخرجكم إلى الوجود في هذه الدنيا؟ ثم يميتكم ثم يحييكم في الأخرة التي لا موت بعدها، وترجعون إلى الله، فينبئكم بأعمالكم، ويجازيكم عليها! أنه ليس من الحكمة أن يخلق الله هذه الخليقة، ويأمرها، وينهاها، ويرسل إليها الرسل، ويحصل ما يحصل من القتال بين المؤمن والكافر، ثم يكون الأمر هكذا يذهب سدًى؛ بل لابد من الرجوع في الآخرة، للحساب.
انظر سورة هود (011.5) للمزيد من التأكيد وبيان أن العبادة لله وَحدَه كانت مضمون كل الرسالات والكتب المرسلة إلى الأمم: فهي تبيّن وجوب العبادة لله وحده {ألا تعبدوا إلا الله (2)} هود، والتوكل عليه في كل شيء {فاعبده وتوكّل عليه (123)} هود، ووجوب العمل ابتلاءاً {ليبلوكم أيّكم أحسن عملا (7)} هود.
002.6.2- ذكر ثلاثة قصص: هي قصة آدم وبداية التكليف، وقصة انحراف بني إسرائيل، وقصة استقامة إبراهيم عليه الصلاة والسلام:
002.6.2.1- الآيات (30-39) فيها تفصيل أصل الإنسان وبداية التكليف وتحميلهم أمانة العبادة، وبيان قِدَم الإنسان مع قِدَم الأحداث، لأنه ما دام أن الأرض والسماوات خلقها الله ليسخرها للإنسان ويستخلفه فيها فلا بدّ من شرح القصّة من أولها، مع بيان عداوة إبليس القديمة التي ابتدأت أيضاً مع بداية الخلافة.
للمزيد حول موضوع الإنسان والتكليف والعبادة: راجع تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 6.2.2- التعريف بالإنسان والأطراف الفاعلة في حياته؛ و (055.6) بعض التفاصيل عن موضوع سورة الرحمن.
002.6.2.2- الآيات (40-123) قصة بني اسرائيل وعرض أمثلة عن انحرافهم ونكثهم عهد الله وحرمانهم من الخلافة. وهي أمة جاءها كتاب ففرّطت فيه: يتأكد من خلال القصة موضوع الإيمان والهداية والكفر والتكذيب ومظاهر ذلك:
(40-46) مدخل لقصة بني إسرائيل يبين نعمة إنزال الدين، وأمرهم بالوفاء بالعهد لأنهم محاسبون، وتأمرهم بالإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة (47-62) نعم الله على بني إسرائيل: بتفضيلهم على العالمين، وإنجائهم من آل فرعون، وعفوه عنهم بعد اتخاذهم العجل، وظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسوى وأدخلهم القرية ورزقهم الأكل الرغيد وفجّر لهم العيون (63-74) أخذ تعالى عليهم الميثاق ورفع فوقهم الطور ورحمته بهم، رغم تولّيهم، ثم آية ذبح البقرة وإحياء الموتى ثم قسوة قلوبهم (75-82) بيان تحريفهم وعلل أو أسباب عدم إيمان بني إسرائيل (83-86) أخذ المواثيق وإقامة الحجة عليهم في موضوع الإيمان، ثم أنهم آمنوا ببعضه وكفروا ببعض، واشترو الدنيا بالآخرة (87-103) نقاش مع بني إسرائيل أو حوار مباشر تقيم عليهم الحجة وتعرض الأسباب التي تحول بينهم وبين الإيمان الآيات، وتفنيد مزاعمهم والتحذير منهم. الآيات (104-123) أمر المؤمنين بعدم متابعة بني إسرائيل وعدم الوقوع فيما وقعوا فيه، بكشف دسائسهم للإسلام والمسلمين والرد على شبهاتهم.
002.6.2.3- الآيات (124-141) عرض مثال عن الاستقامة في قصة إبراهيم عليه السلام وقد قام بحق الوحي، وفيها تفنيد دعوى اليهود بأنهم على ملّة ابراهيم لأنه وصّى بالإسلام وأن أمّة محمد صلى الله عليه وسلّم هي وارثة ما آتاه الله لإبراهيم والنبيين من بعده بعد أن أضاع ذلك اليهود. ومن خلال القصة يتضح قدم أماكن العبادة والرسالات والقبلة.
(124-129) إمامة إبراهيم وبعض ذريته عليهم السلام (130-134) حوار مع الراغبين عن دين إبراهيم (135-141) حوار مع الداعين إلى غيره.
002.6.3- بيان طريق الهدى وإعداد أمة محمد صلى الله عليه وسلم آخر الأمم لخلافة الأرض:
بعد الانتهاء من المثل السيّء الذي مثله بنوا إسرائيل في تعاملهم مع رسالة ربهم ورحمته لهم {فتاب عليكم إنه هو التوّاب الرحيم (54)}، وبعد عرض نموذج الاستقامة في قصة إبراهيم عليه السلام وقد قام بحق الوحي.
002.6.3.1- بعد بيان أن هذا الدين قديم وهو دين إبراهيم عليه السلام، وبعد أن بين أن أهل الكتاب يودّون {لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً (109)}، وبعد أن أمرهم {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة (110)}، تبدأ السورة بسرد رحمته سبحانه لأمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم، الأمة الوارثة لهذا الدين، بأن يبيّن لهم طريق الهداية المشحون بآيات رحمته {وما كان الله ليضيع ايمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم (143)}، فيبيّن لهم أن دينهم وسطاً وأنهم أمة وسطاً، وأنهم شهداء على الأمم وأن رسولهم شهيد عليهم، أرسله إليهم بأعظم نعمة وهي أنه: يتلو عليهم آيات الله فيؤمنوا ثم يزكيهم فتسموا أخلاقهم ثم يعلمهم الكتاب أي القرآن والحكمة التي فيها الخير العظيم ومالم تكونوا تعلمون من أخبار الماضي وخلق الكون والتكليف وأخبار المستقبل والآخرة: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)}، وأن هذه الحياة الدنيا دار ابتلاء (كابتلاء آدم في الجنّة)، بنقص بسيط من النعمة لا كلّها، يتبعه فوز للصابرين، وتستمر ّ الآيات ببيان جميع أركان الإيمان وأركان الإسلام والمعاملات والواجبات في دين الله وهديه، وقد فصلتها أبلغ تفصيل في الآيات (142-199)، كما يلي:
الآيات (142-152) حكمة تحويل القبلة والرد على إشاعة السفهاء. الآيات (153-157) التوجيه للاستعانة بالصبر والصلاة على تكاليف دورها العظيم. الآيات (158-167) تصحيح أخطاء أهل الكتاب بسبب كتمانهم للحق، وبيان أن الله واحد وأن ما أنزله من البينات والهدى هو الحق، والتحذير من كتمانها، وأهمها التوحيد ووجوب اتباع أوامر {التواب الرحيم (160)}، {الرحمن الرحيم (163)} في الحلال والحرام وعدم كتمان ما أنزله {من البينات والهدى من بعد ما بينّاه للناس في الكتاب (159)}، إذا كان الله وحده هو الإله، وهو رحمن رحيم، فكيف لا يصبر الإنسان على أمره. (168-173) الأمر بأكل الحلال (174-177) بيان أن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب لهم عذاب أليم، وتعريف البر. الآيات (178-188) في القصاص والوصيّة والصيام والدعاء وأكل أموال الناس بالباطل وهي بعض من المعاملات والشرائع التي بها تحفظ الحقوق في المجتمع المسلم. الآيات (189-199) من أحكام الحج والقتال والمشاعر المقدسة.
002.6.3.2- الآيات (200-214) بيان أن عمل الإنسان هو الدليل على ايمانه وليس أقواله، فالكافر مفسد في الأرض والمؤمن يبتغي رضوان الله في عمله.
تعيد السورة تأكيد ما افتتحت به من بيان أن أصناف الناس سيظل ثلاثة: الكفار وهم طلاب الدنيا {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق (200)}، والمؤمنون {ومنهم من يقول ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (201)}، والمنافقون {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام (204)}. وقد جاء هذا التفصيل تمهيداً قبل إكمال باقي الأحكام ليبيّن أن الناس مختلفين {ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه (213)}.
002.6.3.3- تأتي هذه الآيات (215-283) من السورة وفيها تفصيل شرع الله في التعامل بين الناس، بعد ذكر وتفصيل أركان الإيمان الستة (بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر) وأركان الإسلام الخمسة (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج)، التي كان فيها جهاد النفس وتخللها جهاد الأعداء وهو القتال، ذروة سنام الإسلام، وبعد إعادة تأكيد أصناف الناس الثلاثة، في الآيات التي سبقتها مباشرة. وذلك لاحتياج الإنسان إلى العلم بهذه الأركان وهذه القاعدة (أي أصناف الناس الثلاثة) في تعامله مع ما سيأتي من الأحكام في تنظيم الأسرة والإنفاق والتجارة وغيرها. وليعلم أيضاً أن الدين وما جاء فيه من أحكام وشرائع لتسيير أمور الناس قائم على البينات والعلم بأحكام الله {لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي (256)}.
الآيات (215-220) إجابة على أسئلة للصحابة عن الإنفاق والقتال في الشهر الحرام والخمر والميسر واليتامى. الآيات (221-225) أحكام وتشريعات في تنظيم الأسرة المسلمة: حيث تتناول بعض أحكام الزواج الصحيح الطاهر والمعاشرة، وعدم جعل الأيمان مانعة من البر (226-242) أحكام وتشريعات في تنظيم الأسرة المسلمة: تتناول بعض أحكام الطلاق والصداق والخلع والرجعة والإيلاء والعدة والرضاع والنفقات وغيره والمحافظة على الصلاة. الآيات (243-252) القتال وشروط إقامته: دروس تاريخية عن جماعة {خرجوا من ديارهم} فراراً من الموت فلم ينفعهم جهدهم في اتقاءه. وعن تجربة في حياة بني اسرائيل من بعد موسى في قصة طالوت وداود وجالوت، تبين أن الكثير من الناس لا يصبر ويتراجع أمام الابتلاء، ولا يثبت إلى النهاية إلا الفئة المختارة المؤمنة بوعد الله. الآيات (253-257) تبين اسس وقواعد الدّين الإسلامي عن الرسل والإنفاق وصفات الله وأنه {لا إكراه في الدين}. الآيات (258-260) بيان قدرة الله على خلق الحياة والموت والبعث. الآيات (261-274) بيان فضل الإنفاق والصدقات. الآيات (275-281) تحريم الربا: فبقدر ما يدل الإنفاق في سبيل الله على النفس الخيرة، يدل الربا على النفس الشريرة الجشعة المستغلة. يخبر الله بأنه يمحق الربا: أي يذهبه إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعدمه في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة. الآيات (282-283) أحكام الرهن والتجارة والبيع: آية الدّين تدل على البديل عن الربا، وفيها ضبط التعامل بين الناس في الديون والبيوع.
002.6.4- الآيات (284-286) خلاصة سورة البقرة بأن كلّ ما في الكون هو لله، فليس لأحد من مخلوقاته من خيار إلا الإيمان الانقياد والطاعة، والاستعانة به والتوسّل إليه للتمكين في الدنيا، وطلب المغفرة والعفو والرحمة للنجاة يوم الحساب.
002.7 الشكل العام وسياق السورة:
002.7.1- إسم السورة: قصّة البقرة والتي هي إسم السورة مذكورة في الآيات (67-73)، حيث قتل شخص من بني إسرائيل ولم يعرفوا قاتله فعرضوا الأمر على موسى عليه السلام لعلّه يعرف القاتل فأوحى الله إليه أن يأمرهم بذبح بقرة وأن يضربوا الميت بجزء منها فيحيا بإذن الله ويخبرهم عن القاتل وتكون برهاناً على قدرة الله جل وعلا في إحياء الخلق بعد الموت، إلا أن جدال اليهود فيها وكثرة أسئلتهم عنها واتخاذهم العجل كانت مثالاً عملياَ عن نوعيّات الناس الذين بيّنتهم السورة في الآيات الأولى (1-20) (المؤمن والكافر والمنافق) واختلاف طبائعهم ودرجات إيمانهم {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون (138)}. وتشكل الخلفيّة المناسبة لبيان ما يترتب على قبول الأحكام وكل الأوامر والتشريعات التي تملأ السّورة، على القارئ أن يستحضر في قلبه قصّة البقرة وكثرة جدال اليهود وتحايلهم الذي أدّى إلى غضب الله عليهم.
002.7.2- سياق السورة في بيان أن الله خلق الناس لينعم عليهم، وأن الهدى هو للحفاظ على هذه النعمة:
بدأت السورة بالقول بأن الهدى في الكتاب، وهو: الهدى إلى صراط الذين أنعم الله عليهم، ثم أخذت بالتفصيل والتعريف بطريقة التزام الطريق المستقيم، وبالبشارة والأمر بالمحافظة عليه، وبالإنذار والنهي عن اتباع سبل الضلال التي تبعد عن الصراط وتفسد النعمة. والهدى هو بكل بساطه أمرٌ من الله المُنعم بأن لا يفسد الإنسان نعمة ربه، وبشارة بأنه إن أطاع يدوم له النعيم ويزداد، وهي نهي عن الفساد في الأرض، ونذير بأنه إن أفسدها سلبت منه النعمة وعوقب.
لقد خلق الله الناس ليسعدوا بعبادته ونعمته، فأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، ثم أمرهم بالمعروف والعمل الصالح ليحافظوا عليها، ونهاهم عن المنكر والفساد فالله لا يحب الفساد. يبدأ سبحانه يعرّفهم بأنه الله الذي لا إله غيره، ثم يبين لهم في أنفسهم وفي كل شيء حولهم عظيم نعمته عليهم، ثم يعدهم بإعطائهم كل ما يشاؤون بدون حدود، فلا حدود لعطائه. إنه اسلوب مطرد وجدناه في سورة الفاتحة وسنجده في سورة البقرة وفي كل القرآن الكريم؛ ووجدناه في كل شيء في هذه الحياة الدنيا، يبدأ الأمر في القرآن بالتعريف والهداية إلى صراط السعادة والفلاح، ثم يليه التطبيق في الواقع المشاهد وبه تعريف وهداية أيضاً. الله تعالى يعرف على نفسه في كتابه: بأنه رحمن فيريهم آثار رحمته ونعمته في أنفسهم وفي كل شيء حولهم، وأنه رب يربيهم أطفالاً وشباباً وشيوخاً، رحيم يغفر لهم ويرحمهم، مجيب يستجيب لدعائهم، مغيث يغيثهم في الشدائد، معيذ يعيذهم مما لا حيلة لهم به، عدل يرون عدله في كل شيء، كريم يؤتيهم ويسبغ عليهم نعمه، ودود يتودد إليهم بالمغفرة والتوبة واستجابة الدعاء وتحقيق الأمنيات، وغيرها من صفات كماله وأسماءه الحسنى، التي يريهم آثارها وفعلها فيهم، وحقيقتها في واقعهم الحاضر، وماضيهم المشاهدة آثاره، والمتواترة أخباره، ومستقبلهم الذي يرون آياته في الآفاق وفي أنفسهم، وفي استجابة الدعاء، وفي التيسير والتعسير والابتلاء بالخير والشر، وفي الهداية والضلال، وفي النصر والهزيمة وغيرها من الأحداث ودوران الأيام، وغيرها من الأمثلة وجريان السنن والقوانين، حتى يصل الإنسان إلى الإيمان الراسخ، واليقين القوي بمعيّة الله، فلا يسعه إلا أن ينطق عالياً، كما كان ينطق بلال رضي الله عنه وهو في شديد المحنة والعذاب ….. أحد أحد، أحد أحد.
الهدى في سورة البقرة هو إلى صراط الذين أنعم الله عليهم: إنه بكل بساطه البقاء في عين رحمة الله وفضله، واجتناب غضبه وعذابه، عن طريق التقوى، أي بامتثال أمره ونهيه، فيتقي العذاب ويبقى في رحمة الرحمن. إنه عمل بسيط جداً نافع، ومعادلة سهلة جداً، حاصلها: تقوى الله بعمل أشياء صالحة نافعة، أعمال هي نفسها غاية مراد الإنسان وسعادته، يقابلها رضى الله تعالى والفوز والفلاح في الدارين: الدنيا والآخرة. فكيف نتقي الله من خلال القيام بأعمال هي غاية مرادنا وسعادتنا لنفوز كلّ هذا الفوز العظيم؟! إنه كلّه موجود في ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه هدى للمتقين، والأعمال التي بدأت سورة البقرة في بيانها، واستهلّت بها، والتي ستكمل ما تبقى منها قبل نهايتها، وتفصلها جميعها، هي كما يلي:
002.7.2.1- الذين يؤمنون بالغيب: وبأن الله أعدّ لهم جنات خالدين فيها أبداً، ونعيم مقيم وسعادة لم تخطر على قلب بشر. (انظر أيضاً نعمة الإيمان، في تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.3- نعمة تطبيق الدين وشؤم ونقمة عدم تطبيقه).
002.7.2.2- إقامة الصلاة: تقف أمام الله تطلب منه ما تشاء فيستجيب لك، فقد خلقك ليسعدك لا ليعذبك، وقد أثبت لك بالدليل الملموس والمشاهد أنه يهديك لما فيه سعادتك، ويريك طريق سعادتك، ويعلمك سلامتك، ويعرفك أبواب رحمته ليرحمك، ومسالك محبته لك. (انظر نعمة العبادة، في تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.3.2- خلق الله الإنسان لكي يكرمه ويسعده في الدنيا والآخرة، بالمعرفة والعبادة).
002.7.2.3- مما رزقناهم ينفقون: أكبر نعمة هدى الله إليها الناس هي نعمة الإنفاق. اهتم القرآن الكريم كثيراً جداً بمدح المنفقين والحث على الإنفاق، إذ أن الإنفاق كان من أعظم الوسائل إلى رقي الأمم وسلامتها من كوارث شتى كالفقر والجهل والأمراض المتفشية فببذل المال تسد حاجات الفقراء وتشاد الطرق والمدارس والجامعات وتقام وسائل حفظ الصحة إلى ما يشاكل هذا من جلائل الأعمال (انظر في تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.2.5.1- الإنفاق في سبيل الله؛ وكذلك في سورة الحديد: 057.8.7- الإنفاق في سبيل الله).
002.7.2.4- الإيمان بالقرآن وما أنزل على الأمم السابقة: عناية الله وهدايته (انظر الهدى في تسهيل فهم وتدبّر القرآن: في الفصل 4.1- مقصد القرآن الكريم هو هداية الثقلين الإنس والجن إلى الحق وإلى الطريق المستقيم)
002.7.2.5- اليقين بالآخرة: العدل المطلق والجزاء على الأعمال (انظر في تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.2.4.2- الترغيب والترهيب؛ 7.2.4.3- الخوف والرجاء؛ 7.3.2.4.3- الحساب والجزاء على حمل الأمانة).
هذا هو طريق الهدى إلى التقوى والفلاح في الدارين، والذي به يسود السلام والإسلام والإيمان على الأرض، ونقيضه هو الكفر والنفاق والفساد والبخل، وهي المهلكات للإنسان والحرث والنسل في الأرض، والموقعات في العذاب يوم القيامة. وقد بدأت السورة بذكر هذه البشارات العزيزة بالسعادة والفلاح، فلله الحمد والمنّة على رحماته، ثم ثنّت ببيان ذلك النقيض العجيب البغيض الذي أوقع أكثر الناس أنفسهم فيه وهو الكفر والنفاق والعياذ بالله.
002.7.3- سياق السورة باعتبار قصة موسى عليه السلام مثالاً (نموذجاً) عن الدعوة إلى الهدى (بيان طريق الهدى بالتجربة):
سياق السورة يسير في اتجاه بيان رسالة السماء للإنسان ممثلة بالأنبياء والرسل، مبلغين عن ربهم ما أرسلوا به، من الحق والهدى إلى {الصراط المستقيم}، ثم بيان التفاوت الحاصل بين الناس في قبولهم لهذا الحق والهدى.
002.7.3.1- وقد اختار سبحانه قصةّ نبيه موسى عليه الصلاة السلام مع بني إسرائيل، لتكون مثالاً حياً، يظهر لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم من خلاله، كيف استقبل هؤلاء هذه الرسالة، وكيف أثرت في حياتهم، ثم كيف كان مصيرهم. وقد ابتدأت قصتهم في السورة من عند أوّل وصول رسالة السماء، فلم تذكر ولادة موسى عليه السلام ولا ذهابه إلى فرعون لدعوته إلى عبادة الله وتبليغه رسالة الهدى ولا غيرها من الأحداث. أي ابتدأت في نفس ظروف نزول سورة البقرة بعد خروج المسلمين مهاجرين ونجاتهم من بطش قريش واستقرارهم في المدينة؛ أي بعد أن نجّى الله بني إسرائيل من آل فرعون {وإذ نجيناكم من آل فرعون (49)}، حين ذهاب موسى {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة (51)} لاستلام الألواح التي فيها {الكتاب والفرقان (53)}، ثم كيف أنهم بعد ذلك اتخذوا العجل وجادلوا فقست قلوبهم وحرّفوا كلام الله وأفسدوا فقتلوا أنفسهم وأخرجوا فريقاً منهم من ديارهم ورفضوا دخول الأرض المقدسة، وغيرها من المعاصي، ثم ما فعلوه بالأنبياء من بعد موسى إلى أن انتهى بهم المطاف، بعد أن استبدلهم ربهم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فنبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا ما تتلوا الشياطين، ودخلوا في مواجهة وصراع محموم مع أمّة خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام انتهى بانتهائهم وخروجهم من جزيرة العرب أذلاء مهزومين {تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون (141)} البقرة. ومن خلال سرد قصتهم كان سبحانه يرسل الإشارات لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم، تبين لهم أخلاق بني إسرائيل {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (75)} حتى يكونوا على حذر منهم. وبعد انتهاء القصّة ظلت السورة إلى نهايتها ترسل الإشارات إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم محذرة إياهم من أفعال بني إسرائيل {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)}، ومحذرة إياهم من أن يأتوا بمثل أفعالهم من كتمان الحق والبينات {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ {159}، واستبدالهم نعم الله {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)}، إلى أخر آية في سورة البقرة فقال: {ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا (286)}.
002.7.3.2- مما سبق يتبين لنا أن دين الله الإسلام بعباداته وشرائعه وأحكامه التي نزلت على بني إسرائيل، وتحريف اليهود لهذه الشرائع والأحكام جاء بيانه في النصف الأول من السورة، وفيه جاءت قصة موسى عليه السلام لتشكل مثالاً (نموذجاً) عن الدعوة إلى الهدى، وعلى تقبل أهل الأرض لرسالة السماء، وعلى مصير الفريقين المؤمن والكافر. أما بيان حقيقة شرع الله وأحكامه قبل تحريفها فقد جاء في النصف الأخير منها، وقد سبقه مباشرة قصة إبراهيم عليه السلام وقد قام بحق الوحي، وفيه تفنيد دعوى اليهود بأنهم على ملّة ابراهيم عليه السلام لأنه وصّى بالإسلام.
002.7.4- سياق السورة باعتبار القصص والأمثال والآيات:
من أجل تسهيل فهم مقصد السورة وموضوعاتها، استخدمت أسلوب القصص والأمثال والآيات الكونية، وقد أشارت إلى هذا في الآية {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً (26)} أي أنه سبحانه سيضرب الكثير من الأمثال. وفي افتتاح السورة بدأ سبحانه بأن ضرب مثلاً يبين فيه حال الذين استجابوا للهدى بأنهم {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3) والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4)}، ثمّ قال عن الذين كفروا {أنهم لا يؤمنون (6)} لأنه {ختم (7)} على قلوبهم فلن تفتح، أما سمعهم وأبصارهم فعليها {غشاوة (7)} فلن يخترقها الهدى، ثمّ قال عن المنافقين {في قلوبهم مرض (10)}، ثمّ {اشتروا الضلالة (16)} و{استوقد ناراً (17)} و{كصيب من السماء (19)}، وغيرها الكثير، فأكثر من نصف آيات السورة هي أمثلة وقصص وآيات استخدمتها كوسيلة لإيصال المعلومة للإنسان على مختلف مستويات فهمه. (انظر في تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.1.3- القصص في القرآن). ثمّ بدأ هنا بهذه القصص والأمثال حول بداية التكليف ودروس من التاريخ عن ضلال بني إسرائيل واستقامة إبراهيم عليه السلام.
سنجد أن 125 آية من آيات السورة هي قصص وأمثلة وأحداث حقيقية سجلت عن الأمم السابقة، تحكي حقيقة أفعال ومصائر فئات الناس الثلاثة، المؤمن والكافر والمنافق، لتكون عبرة ودرساً بالتجربة للأمة الخاتمة، وإذا أضفنا إليها الأمثال المألوفة التي تقرب المعاني الصعبة في 18 آية، وآيات الله في الخلق 5 آيات، يصبح عددها 148 آية أي أكثر من نصف عدد آيات السورة قصص وأمثال وآيات، كما يلي:
002.7.4.1- آيات القصص (125 آية): الآيات (30-39) قصة خلافة الإنسان على الأرض. الآيات (40-103) قصة بني إسرائيل وغضب الله عليهم بسبب معرفتهم الحق وكفرهم به. الآيات (108، 109، 111-123، 145، 146) قصة ضلال اليهود والنصارى وشركهم وتحريف دينهم وضياع الهدى من بين أيديهم وقولهم اتخذ الله ولداً، وتكذيبهم آخر الرسالات. الآيات (124-141) قصة إيمان إبراهيم عليه السلام وبنيه، وإيمان يعقوب عليه السلام وبنيه وعبادتهم الله وحده، التي ضل عنها اليهود والنصارى. الآيات (211-214) ارسال الآيات إلى بني اسرائيل والمرسلين مبشرين ومنذرين والابتلاء. الآيات (243، 246-253) قصة فرض القتال على بني اسرائيل. الآيات (258-260) قصص فيها الدليل على أحياء الله الموتى.
002.7.4.2- آيات الأمثلة: الآية (7) مثل الكافرين. الآيات (10، 16-20) مثل فعل المنافقين وجزاؤهم. الآية (26) مثلاً ما بعوضه. الآية (171) مثل الذي ينعق بما لا يسمع. الآيات (174، 175) كتمان الكتاب. الآية (187) هن لباس لكم. الآية (223) نساؤكم حرث لكم. الآيات (261، 264-266) مثل الإنفاق في سبيل الله. الآية (275) مثل آكل الربى.
002.7.4.3- آيات الله في الخلق وفي السماوات والأرض وغيرها: كالآيات (21، 22، 28، 29، 164).
002.7.5- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:
كنا قد ذكرنا في المقدمة بأن الإشارة هنا إلى عدد آيات القصص عند إحصائها ضمن سياقها قد يختلف قليلاً عن العدد الذي ذكرناه أعلاه، والسبب هو وجود بعض الآيات المختلفة في السياق الواحد، أو أن الآية قد تحتوي على أكثر من موضوع في نفس الوقت فتصنف هنا أو هناك. فالقصص لا تقتصر على بيان أحداث وتجارب مجرّدة عما حولها، فأبقيناها في سياقها الذي قد يتضمن أيضاً قصص يوم القيامة وبيان نعم الله وآياته في السماوات والأرض أو في غيرها من المخلوقات، وكذلك بعض الصفات والأوامر والنواهي أو غيرها من الأشياء المذكورة ضمن السياق.
002.7.5.1- آيات القصص: (30-151، 191، 211-214، 217، 218، 243، 246- 253، 258-260، 285، 286) = 143 آية.
002.7.5.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (25، 166، 167، 210) = 4 آيات.
002.7.5.3- الأمثال في الآيات: (7، 10، 15-20، 26، 27، 171، 174، 175، 187، 195، 223، 256، 257، 261، 264-266، 275) = 23 آية.
002.7.5.4- آيات الله في السماوات والأرض في الآيات: (21، 22، 28، 29، 163، 164) = 6 آيات.
002.7.6- سياق السورة باعتبار موضوعات آياتها:
اعتمدت السورة على القصص والأمثال والآيات كما بيّنا أعلاه من أجل تقريب المعاني وتسهيل فهم موضوعاتها حول بيان طريق الهدى {الصراط المستقيم}، ومن أجل استفادة الدروس في التطبيق العملي من خلال تجارب الأمم السابقة، وأهم موضوعات السورة وتطبيقاتها هي: أركان الإسلام وأركان الإيمان وأحكام (المعاملات في) الشريعة، كما يلي:
002.7.6.1- أهم موضوع ابتدأت السورة بذكره، على طريق الهدى الذي في الكتاب والذي لن يهتدي إليه إلا المتقون، هو الإيمان، قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (3)}، وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}:
وأركان الإيمان الستة كما في الحديث الصحيح، هي: “أَنْ تُؤْمِن بِاللَّهِ وملائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ، والْيومِ الآخِرِ، وتُؤمِنَ بالْقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ”. وقد جاءت كلّها مجموعة في آية واحدة، وهي آية البر، قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}، والبأساء والضرّاء هي من القدر وقد تكررت في الآية: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)}.
002.7.6.2- الموضوع الثاني العبادات أو أركان الإسلام الخمسة وأهمها الصلاة، قال تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ (3)}، وأركان الإسلام الخمسة كما في الحديث الصحيح، هي: “أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً رسولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤتِيَ الزَّكاةَ، وتصُومَ رَمضَانَ، وتحُجَّ الْبيْتَ إِنِ استَطَعتَ إِلَيْهِ سَبيلاً”، وجاءت متفرقة في السورة كما يلي:
002.7.6.2.1- شهادة أن لا إله إلا الله كما في الآيات: {وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)}، {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (255)}. وقد تكرر اسم الجلالة في السورة 286 مرّة أي بعدد آيات السورة وهي: لفظ الجلالة {الله} تكرر 269 مرّة، {لله، إله} 17 مرّه أي بمجموع 286 مرة. مقارنة بعدد آيات السورة وهي 286 آية. ومحمد صلى الله عليه وسلم جاء بلفظ عبدنا في الآية: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا (23)}، ورسول كما في الآية: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ (285)} وغيرها.
002.7.6.2.2- الصلاة والزكاة كما في الآية: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} وفي غيرها من الآيات.
002.7.6.2.3- صوم رمضان كما في الآية: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (185)} وجاءت أحكامه خمسة آيات متتالية هي الآيات (183-187).
002.7.6.2.4- حج البيت كما في الآية: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ (196)} وجاءت أحكامه في 10 آيات هي (125-127، 158، 189، 196-203).
002.7.6.3- الموضوع الثالث هو المعاملات، ونذكر أهمّها أو التي أكثرت من الحديث عنها الآيات:
002.7.6.3.1- وأهم موضوع في المعاملات هو الذي ابتدأت السورة بذكره وهو الإنفاق في سبيل الله، قال تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}.
واللافت في السورة هو كثرة حديثها عن الأموال: في الإنفاق والزكاة وأموال والربا والصدقات والرزق وأموال اليتامى وعدّة المطلقات، مما يشي بأهمية دور المال في الإسلام وفي حياة الناس، وليست أموال الزكاة المفروضة فحسب، فالزكاة ذكرت في خمسة آيات فقط، بينما الإنفاق في سبيل الله بشكل عام وتحريم أكل الربا وكتابة الدين والأمانات جاءت في 23 آية متصلة هي الآيات (261-283)، وعن الإنفاق أيضاً وزكاة المال في 10 آيات متفرقة هي (3، 43، 83، 110، 177، 188، 195، 215، 219، 254)، أي بمجموع 33 آية في السورة أي 11.54% من آيات السورة تتحدث عن إنفاق المال ومعاملاته. وإذا أضفنا الآيات التي تتحدث عن مال الابتلاء ومال الوصية ومال اليتيم والرزق ومال المطلقة وعدتها، وهي 13 آية (155، 180-182، 212، 220، 229، 233، 236، 237، 240، 241، 247)، فيصبح مجموع الآيات التي تتحدث عن الأموال 46 آية من أصل 286 آية عدد آيات السورة، أي 16.08% من آيات السورة تتحدث عن موضوع إنفاق المال في معاملات الناس.
والواقع أن المال هو من أهم وأخطر الأشياء في حياة الناس، لأن حياتهم لا تصلح إلا بإنفاقه، وبه تسهل معاملاتهم، ورأينا في آيات السورة المذكورة أرقامها هنا كيف أن: القتال والزواج والطلاق والعدة والإرضاع والإنفاق واليتامى والعهود والنذور والوصية والتركات والأحكام والأرزاق والملك والدَّين والبيع والشراء والأمانات والتجارة كلها معاملات تحتاج إلى وجود المال. لكن الناس يبخلون به ويكنزونه ولا ينفقونه، لأنهم يحبونه حباً مفرطاً، قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً (20)} الفجر. من أجل ذلك ضاعف الله تعالى أجر إنفاقه في السورة إلى سبعمائة ضعف، أو أكثر، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} البقرة.
لقد ارتبطت أرزاق الناس ومعاملاتهم بالمال، وذكرنا في سورة الفاتحة أن الله يعطي أولاً ثم بعد ذلك يأمر بطاعته، فهو سبحانه يبدأ مع الناس بالعطاء والنعمة قبل أن يأمرهم بتطبيق دينه الذي جعله لكي يحفظ عليهم النعمة والعطاء، (انظر أيضاً في تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.3.4- سعادة الإنسان بشكر الله؛ وانظر في سورة الإنسان: 076.7.4- سياق السورة باعتبار أن الله خلق الإنسان وأكرمه ونعّمه في مقابل أن يشكر النعمة ولا يكفرها)، وعطاء الله ونعمته تحتاج إلى المال ليتبادل ويتوزع وتتداول نعمة الله بين الناس؛ فلا بدّ إذاً من الإنفاق وبذل المال حتى لا ينقطع شريان الحياة، من أجل ذلك اهتمت السورة كثيراً بإنفاق المال، لأنه إذا اكتنز المال تعطلت الحياة وانتشرت المجاعات وهلكت الأمم، وقد أهلك الله أكبر الأمم مثل عاد وثمود وفرعون وغيرهم بسبب حبهم الشديد للمال وكنزه فكانوا لا يكرمون اليتيم ولا يحاضّون على طعام الفقراء والمساكين.
– حول الإنفاق، انظر في تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.2.5.1- الإنفاق في سبيل الله؛ وكذلك في سورة الحديد: 057.8.7- الإنفاق في سبيل الله.
002.7.6.3.2- آيات القتال والقصاص:
الآيات التي تأمر المؤمنين بالقتال وبالقصاص وتبين أجرهم هي 13 آية (154، 155، 178، 179، 190-195، 216-218)، والآيات التي تتكلم عن قتل فرعون لبني إسرائيل وتقتيل بني اسرائيل بعضهم لبعض 9 آيات (49، 54، 61، 72، 84-87، 91)، والآيات التي تتحدث عن قصّة قتال بني إسرائيل وداوود عليه السلام 11 آية (243-253) أي بمجموع 33 آية في السورة = 11.54%.
– حول القتال، انظر في تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.2.5.2- القتال في سبيل الله؛ وكذلك في سورة التوبة: 009.8.6- القتال في الإسلام؛ وفي سورة الممتحنة: 060.8.4- القتال (الجهاد) في الإسلام.
002.7.6.3.3- الآيات التي تتحدث عن النكاح والطلاق والرضاع، وهي الآيات (220-237، 240-242) ومجموعها 21 آية.
انظر أيضاً سورة الطلاق، 065.7.3 سياق السورة باعتبار أحكام الطلاق.
002.7.6.3.4- الآيات التي تتحدث عن تحويل القبلة ووسطية الإسلام، وهي الآيات (115، 142-150) ومجموعها 10 آيات.
002.7.6.3.5- الآيات التي تتحدث النهي عن اتباع خطوات الشيطان وعن تقليد واتباع الآباء: (168-173، 204-209) ومجموعها 12 آية.
002.7.6.4- وباختصار: فإن تدبّر السورة باعتبار القصص وموضوعات آياتها، يظهر أنها تنقسم إلى نصفين متساويين تقريباً في عدد الآيات، أحدهما قصصي عملي والآخر تشريعي نظري. ويتكون كل نصف من ثلاث مجموعات من الآيات كما يلي:
ذكر في الشطر العمليّ قصص عن حقيقة أفعال ومصائر فئات الناس الثلاث، المؤمن والكافر والمنافق، وكأنها رأيَ العين، لمن أراد أن يعتبر؛ ودروساً بالتجربة للأمة الخاتمة في مئةٍ وخمس وعشرين (125) آية عن قصص خروج آدم من الجنة وكفر بني إسرائيل وإيمان إبراهيم عليه السلام وذريته وكثرة إحياء الموتى؛ وإذا أضفنا إليها الأمثال المألوفة التي تقرب المعاني الصعبة وهي ثماني عشرة (18) آية، وآيات الله في الخلق وهي خمس (5) آيات، يصبح المجموع مئة وثمان وأربعين (148) آية، أي أكثر من نصف عدد آيات السورة قصص وأمثال وآيات.
أما الشطر النظري، ففيه بيان الإيمان بأركانه الستة في أربع (4) آيات، والإسلام بأركانه الخمسة في عشرين (20) آية، وأكثر ما ذكر عن المعاملات وأهمها إنفاق المال في ست وأربعين (46) آية، والقتال والقصاص في ثلاث ثلاثين (33) آية، والنكاح والطلاق والرضاع في واحد وعشرين (21) آية، وتحويل القبلة ووسطية الإسلام في عشر (10) آيات، والنهي عن اتباع خطوات الشيطان وتقليد واتباع الآباء في اثنتي عشرة (12) آية، أي بمجموع مئة وست وأربعين (146) آية. هذا الإحصاء تقريبي، فبعض الآيات قد تحتوي على أكثر من موضوع في آن واحد.
ونشير هنا إلى أن في ثمانين (80) آية، أي في أكثر من ربع عدد آيات السورة بشقيها العمليِّ والنظريّ، جاء ذكر الترغيب بطاعة الله طمعاً بالفوز بالجنة والنعيم، والترهيب من المعصية تخويفاً من النار والعذاب، كما بيناه في الفصل الذي يلي.
002.7.7- الترغيب بطاعة الله للفوز بالجنة والنعيم، والترهيب من المعصية تخويفاً من النار والعذاب:
من عظيم رحمة الله بالناس لأنه خلقهم لأجل أن يسعدهم لا أن يعذبهم، ولأن كثير من الناس ينشغلون بالدنيا عن الآخرة فيتبعون أهواءهم وشهواتهم، ويطيعون أمر عدوهم اللدود الشيطان الذي يريد أن يغويهم فيهلكوا، ويزين لهم المعاصي، كما رأيناه في القصص والأمثال، ذكرت السورة أيضاً الكثير من الآيات التي ترغبهم بالجنة وتخوفهم من النار، لعلهم يهتدون فيطيعون ولا يعصون فيضلّوا. وهي الآيات (3-7، 10، 24، 25، 38، 39، 48، 62، 79-82، 85، 86، 90، 94-96، 103، 104، 110-114، 119، 123، 126، 130، 154، 157، 161، 162، 165-167، 174، 175، 178، 196، 197، 200-203، 206، 207، 210-212، 214، 217، 218، 221، 223، 228، 232، 245، 249، 254، 257، 261-265، 271-277، 281، 284، 286) ومجموعها 80 أيه أي أكثر من ربع آيات السورة ذكر فيها أخبار اليوم الآخر والحساب والعقاب بالجنة أو بالنار.
انظر الترغيب والترهيب (في تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.2.4.2- الترغيب والترهيب؛ 7.2.4.3- الخوف والرجاء؛ 7.3.2.4.3- الحساب والجزاء على حمل الأمانة).
002.7.8- سياق السورة باعتبار ترتيب آياتها:
بعد أن بيّنا أعلاه بأن سياق السورة باعتبار موضوعاتها يقسهما إلى نصفين متساويين في عدد الآيات، أحدهما قصصي والآخر إخباري، نبين هنا أن سياق السورة باعتبار ترتيب آياتها يقسمها كذلك إلى نصفين متساويين تقريباً في عدد الآيات. فبإعادة تدبّر الترابط والتناسب بين كل موضوعات السورة المتفرّقة، والتي قد تبدو مشتتة وغير مترابطة، ضمن سياقها في السورة، فبإمكاننا تمييز ست وعشرون (26) مجموعة من الآيات مترابطة ومتناسبة في نسيج واحد يظهر منه شمول وكمال وجمال وإعجاز كلام الله تعالى في البيان، بكل ما يحمله من معنى، حول مقصد السورة، والذي هو: بيان طريق الهدى إلى الصراط المستقيم.
إذاً يمكننا تقسيم سياق السورة باعتبار ترتيب آياتها إلى نصفين متساويين تقريباً، النصف الأوّل هو كالمقدمة والتمهيد للنصف الثاني، وفيه أمثلة وقصص من الماضي وقد ختم بقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ}، (وفيه الخمسة موضوعات التالية كما بيناها أعلاه)، والنصف الثاني (وفيه واحد وعشرون موضوعاً تحت خمسة عناوين رئيسية بينّاها أدناه) هو خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وختم بِ آمن الرسول.
وهذا السياق الذي اتبعته السورة من حيث الترتيب، أي ابتدأت بأمثال وقصص ثم تلاه خطاب وبيان، له فوائد جمّة، وأهمها: المقارنة بين أحوال الأمم ومعرفة أوجه الشبه والاختلاف بين أعمالها ومصائرها، فيعلم بذلك المؤمن أو الكافر مصيره مقدّماً، قياساً على فعل من سبقه من الأمم؛ وتستفيد كذلك أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم من القصص والتجارب الحقيقية في الأمم السابقة، وتتعلّم من أسباب سعادتها أو شقائها، وتكون بذلك وكأنها قد أضافت من أعمارهم إلى أعمارها؛ ومن الفوائد المهمّة أيضاً أن يتعلّم الناس العاديين وغير المتخصصين في علوم القرآن والتفسير، ومن خلال التدبّر البسيط لأحداث القصص، وما فعلوه الناس في حياتهم، واختلافهم، ودرجات استجابتهم لدعوة رسلهم، وسنن الله فيهم، ومصائرهم كأفراد أو جماعات؛ فيتبعوا خطوات فلاحهم، ويحذروا مما أساءهم، وغيرها من الفوائد الكثيرة التي اشرنا إليها كثيراً، وبيّناها في أماكن متفرّقة من هذا الكتاب، وفي تسهيل فهم وتدبّر القرآن. وتتوزّع موضوعات السورة على نصفيها، كما يلي:
002.7.8.1- النصف الأوّل: (يغلب عليه الطابع العملي والتجريبي في بيان طريق الهدى)، فقد ابتدأت السورة بالتعريف بالإنسان وفئاته واختلاف توجهاته (فهو المخاطب المقصود بالهداية)؛ ثم ملخص مختصر عن بدايته وعن مصيره، وعن المقصد من خلقه، وتعليمه، والعوالم المحيطة به، وضرب الأمثلة، وتدبّر الآيات والأسباب ونتائجها؛ ثمّ تجربة آدم والتي تُظهِر تطلعاته وأمنياته، ثم مع من له دور في التأثير على قبول الإنسان للهدى من عدمه، وهو الشيطان؛ ثم تجربة بني إسرائيل، وغضب الله عليهم، ثمّ إبراهيم عليه السلام وطاعته المطلقة واستسلامه لربه ودعواته لذريته بالهدى، كما يلي:
002.7.8.1.1- الآيات (1-20) مقدمة تبين أن الهدى في الكتاب، وهي للمتقين، الذين يؤمنون ويقيمون الصلاة وينفقون، أي يعبدون الله، وأن الناس في قبولهم الهدى ينقسمون إلى ثلاثة فئات: المؤمنون والكافرون والمنافقون.
استهلّت بذكر أصناف الناس الثلاثة وأوصافهم، وهي: 1- المهتدون: في خمس (5) آيات وصفتهم بالمتقين الذين يؤمنون بالغيب وبالتنزيل ويعملون ويعبدون، ثم وصفت 2- الكافرين في آيتين (2) بأنهم الذين بإرادتهم لا يؤمنون فختم على قلوبهم وعلى سمعهم وأبصارهم غشاوة، ثم حال 3- المنافقين: في ثلاث عشرة (13) آية ضرب فيها أربعة (4) أمثلة: وهي أنّ في قلوبهم مرض فهم عاجزون عن الاختيار مذبذبون بين الكفر والإيمان، ثمّ أنهم في تجارة خاسرة بسبب ترددهم، ثمّ أتاهم النور (فلم يقبلوه) فذهب وتركوا في الظلمات لا يرجعون، ثمّ هم كالذي في مطر شديد يصاحبه ظلمات ورعد فجعلوا أصابعهم (التي لن تحميهم) في آذانهم حذر الموت والله محيط بهم، وبرق شديد يخطف الأبصار كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم وقفوا، والله على سلب سمعهم وأبصارهم قدير.
002.7.8.1.2- الآيات (21-29) خلقهم ليعبدوه، فأمرهم بما خلقوا لأجله وهو العبادة وهيّأ لهم الأسباب.
002.7.8.1.3- الآيات (30-39) قصّة خلق الإنسان وفيه ميزتان الأولى أن الله فضّله بالتعلّم فيرقى ويتميز على غيره، ويتعلم بالتلقين المباشر افعل أو لا تفعل. والثانية أنه يخطئ ويخالف ما تعلّم أن فيه صلاحه، ويأتي ما فيه ضرره، فيكافأ على الخير بالبقاء في رحمة الله ونعيمه، ويعاقب على الشر حتى يتوب، فيتوب الله عليه بعد أن يؤدبه بالعقاب المكافئ لذنبه.
002.7.8.1.4- الآيات (40-123) يرينا الله مثالاً من تجربة حقيقية، من قصة بني إسرائيل مع الهدى، بأن أنعم الله عليهم أولاً ثم أمرهم بالإيمان والعمل الصالح أي العبادة، فأعرضوا وانحرفوا عن طريق الهدى واتبعوا سبل الضلال، فغضب الله عليهم واستبدلهم بأمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم، وهم المخاطبون بهذا الكتاب.
ومن نعم الله على بني إسرائيل، في الآيات: (40-46) نعمة إنزال الدين، وأمرهم بالوفاء بالعهد لأنهم محاسبون (47-62) نعمة تفضيلهم على العالمين، وإنجائهم من آل فرعون، وعفوه عنهم بعد اتخاذهم العجل، وظلّل عليهم الغمام وأنزل عليهم المنّ والسّلوى وأدخلهم القرية ورزقهم الأكل الرغيد وفجّر لهم العيون (63-74) أخذ تعالى عليهم الميثاق ورفع فوقهم الطور، ورحمته بهم رغم تولّيهم، ثم آية ذبح البقرة وإحياء الموتى ثم قسوة قلوبهم (75-82) بيان تحريفهم كلام الله وعلل أو أسباب عدم إيمان بني إسرائيل (83-86) أخذ المواثيق وإقامة الحجة عليهم في موضوع الإيمان، ثم أنهم آمنوا ببعضه وكفروا ببعض، واشترو الدّنيا بالآخرة (87-103) نقاش مع بني إسرائيل أو حوار مباشر تقيم عليهم الحجة وتعرض الأسباب التي تحول بينهم وبين الإيمان، وتفنيد مزاعمهم والتحذير منهم. الآيات (104-123) أمر المؤمنين بعدم متابعة بني إسرائيل وعدم الوقوع فيما وقعوا فيه، بكشف دسائسهم للإسلام والمسلمين والرد على شبهاتهم.
002.7.8.1.5- الآيات (124-141) قصّة إسلام / إيمان إبراهيم عليه السلام وإمامته فهو النموذج المثالي الذي يجب أن يحذو حذوه (يتبعوه) المخاطبون بهذا الكتاب.
002.7.8.2- النصف الثاني: (يغلب عليه الطابع الخبري والتقريري في بيان أركان الدّين والأحكام)، إذ بعد تلك المقدّمة البليغة التي استغرقت نصف عدد آيات السورة، يأتي توجيه الخطاب في النصف الثاني، وهو نصف عدد آيات السورة كذلك، إلى أمّة محمد صلى الله عليه وسلّم لكي يتعلموا من أخطاء وتجارب الأمم التي قد خلت، لكي لا يستبدلهم الله كما استبدلهم.
يتكوّن هذا النصف الثاني من السورة من خمس مجموعات من الآيات: الأولى فيها بيان طريق الهدى للأفراد، من إيمان وعبادات، وفيه ثمانية (8) مواضيع؛ المجموعة الثانية عن أصناف الناس الثلاثة، وفيها ثلاثة (3) مواضيع؛ المجموعة الثالثة تتحدّث عن العائلة والروابط الأسرية وتشريعاتها، وفيها موضوعين (2)؛ المجموعة الرابعة من الآيات عن العلاقات والشرائع والقوانين بين الأمم والمجتمعات الكبيرة من الناس، وفيها ستة (6) مواضيع؛ والمجموعة الخامسة هي فقط ثلاثة آيات، تلخص مقصد السورة وفيها موضوعين (2)، الأول (عن صفات الله تعالى) وبأنه له كل شيء، وهو قادر على كل شيء، والثاني (عن صفات الناس) وبأنهم ينسون ويخطئون، وأنهم محاسبون على ما في قلوبهم وأعمالهم وإيمانهم، فيغفر الله لمن يشاء ويعذب من يشاء.
002.7.8.2.1- الآيات (142-203) بيان طريق الهدى والدين للأفراد، وفيه ثمانية موضوعات كما يلي: 62 آية = 21.68%
ويبدأ النصف الثاني بالدخول مباشرة في بيان أركان الدين بشقيه الإسلام والإيمان، فيبدأ ببيان القبلة والإشارة إلى وسطيّة أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم، فبإسلامهم وإيمانهم يصيرون شهداء على بلوغ دعوة المرسلين إلى تلك الأمم، لكن تلك الأمم لم يؤمنوا فأُهلكوا واستُبدلوا، وقامت عليهم الحجة بإيمان أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو بالتأكيد نفس الدين الذي أنزل على تلك الأمم؛ ثم بيان أن طريق الهدى ليس مفروشاً بالورود، بل له منغّصاته، فهو محفوف بالمكاره: كمثل ما حصل من تحرّش السفهاء وأهل الكتاب بالمسلمين بسبب تغيير قبلتهم (مع أن المقصود من تغيير القبلة هو ابتلاء من الله لإيمانهم) وهكذا، فطريق الإيمان فيه ابتلاء وتجربه، ويحتاج إلى الصبر والصلاة يستعين بهما المؤمن على القيام بمهام طريق الابتلاءات، وأداء الشعائر والعبادات، وذلك لأجل الزكاة والتعليم وتوحيد الله وذكر أسمائه وصفاته، يقابله كفر الكافرين وخسرانهم وكتمان أهل الكتاب للكتاب ولعنة الله عليهم.
002.7.8.2.1.1- الآيات (142-150) تحويل القبلة، والإشارة إلى وسطيّة أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم.
002.7.8.2.1.2- الآيات (151-162) تبدأ ببيان مقصد العبادة والابتلاء وهو الزكاة والتعليم ومعرفة الله وذكره وشكره وعدم كفره، ثم بيان تفاصيل عن الابتلاء: بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وأداء التكاليف والشعائر التي فيها سفر ومشقّة كالحج.
002.7.8.2.1.3- الآيات (163-167) بعد ذكر الابتلاء، تبدأ هذه الآيات فوراً بالآية: {وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ (163)} عن توحيد أسماء الله وصفاته، ثم الدليل من آيات الله في السماوات والأرض وما بينهما، التي تجعل الذين آمنوا شديدي الحب لله، لكن مع الأسف من الناس يتخذون من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله.
002.7.8.2.1.4- الآيات (168-177) التحذير من اتباع خطوات الشيطان، إنما يأمرهم بالسوء والفحشاء، والنهي عن الاتباع الأعمى للآباء لأن منهم لا يهتدون، والأمر بالأكل من طيبات ما رزقهم الله وشكره وعبادته وحده، وأن لا يحرّموا إلا ما حرّمه الله، وأن لا يشتروا الضلالة بالهدى، وتختم هذه الآيات بآية البرّ التي أشارت إلى دين الله تعالى بأركانه ودرجاته: الإسلام والإيمان والإحسان، والطريق الواصل بينها وهو التقوى، في مكان واحد.
002.7.8.2.1.5- الآيات (178-182) ثم قوانين حفظ النفس والمال بالقصاص ثم الوصية، فقوانين القصاص فيها حياة وحفظ النفس، وقوانين الوصية فيها وحفظ المال والحقوق.
002.7.8.2.1.6- الآيات (183-187) ثم الصيام يتخلله الكفارة والإطعام والدعاء.
002.7.8.2.1.7- الآيات (188-195) ثم حرمة الأموال والمواقيت وحرمة البيوت ثمّ القتال للدفاع عن الحقوق وردّ العدوان ودفع الفتن (لا الاعتداء) والإنفاق في سبيل الله.
002.7.8.2.1.8- الآيات (196-203) ثم الحج بتفاصيله، بعد آيات حفظ النفس والصيام عن الحلال والقتال والإنفاق، فالقتال في صعوبته في بذل المال والنفس وتمييزه بين الناس كالحج، وتنهي بأن الله ينعم على الناس في الدارين، فمن الناس من لا يريد إلا الدنيا، {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)}.
وهكذا بالانتقال من الآيات التي تتحدث عن الابتلاء بتحويل القبلة وأنها الحق، ثم الابتلاء بالعبادة والخوف والجوع ونقص في النعم من أجل الزكاة التعليم، ثمّ توحيد الله واتباع التنزيل، ثم القصاص والوصية لحفظ النفس، ثمّ الصيام للصبر على الحلال، ثمّ القتال والإنفاق وهي الآيات (190-195) إلى الآيات التي تتحدث عن أحكام الحج، ثم فئات الحجيج، في الآيات (196-204)، يظهر لنا التناسب والترابط العجيب بين كلّ هذه الآيات، أي ذكر الحج والعمرة بعد القتال وبعد الابتلاءات، لما يتشابه بينهما من أصناف المشقّة والجهاد، ومن بذل المال والوقت ومفارقة الأوطان والأحبة وذوي القربى، وتجشم صعوبات السفر والهجران (مع الاختلاف في الخروج للقتال)؛ ثم تذكر الآيات الأقسام المختلفة للحجاج، وفئاتهم، ونواياهم، لأن في مثل هذه الظروف الصعبة من الاختبار يميز الله الخبيث من الطيب وتظهر (جليّة) أصناف ونوايا الناس، فمنهم من يريد الدنيا ومنهم من يريد الآخرة، ومنهم من يريدهما معاً.
وباختصار أو بمعنى آخر فقد بدأ هذا النصف الثاني في بيان أن الإنسان مبتلى، ثمّ بيان أن سبب الابتلاء هو الزكاة والتعلم بالتجربة، قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)}، للوصول إلى محبة الله {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ (165)}، فمقصد خلق ووجود الإنسان هو أن يسعد بمعرفة الله تعالى، وذروة سعادة الإنسان النهائية هي محبّة الله، (كما بيّناه في مقدّمة الكتاب، وفي سورة المائدة انظر 005.7.6- سياق السورة باعتبار قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (54)}) ثم تذكر الآيات أسماء الله التي تَميّز الإنسان بقدرته على معرفتها بالزكاة والعلم والتجربة، ثم بيان الأشياء التي تحرف الإنسان عن اتباع الحق وهي الشيطان وتقليد الآباء، ثم تحقيق الأمان للإنسان، ثم طريق الهدى وأركان الدين التي جمعتها في آية البر، فيكتمل البيان. لكن لأن الإنسان يعيش في جماعة وليس منفرداً، لذلك ستأتي مباشرة، فيما تبقّى من الآيات، قوانين وشرائع وأحكام تحكم بقاء الجماعة، ولكي تتضح أكثر هذه القوانين تعود الآيات في منتصف المسافة بين آيات هذا النصف وتكرر أصناف الناس مرّتين، في ختام الربع الأول في الآيات (200، 201، 204) وفي بداية الربع الثاني في الآيات (204، 207، 212)، ثم تختم السورة بآيات من كنز من تحت العرش هي الآيات (285، 286)، كما يلي:
002.7.8.2.2- الآيات (204-220) أنواع الناس وفئاتهم واختلافهم: في منتصف المسافة من هذا النصف الثاني من سورة البقرة، وبعد أن تختم مجموعة الآيات السابقة التي تحدّثت عن أركان الدين، بأنواع الناس الثلاث، كما ذكرنا في الآيات (200، 201، 204)، وقبل أن تبدأ مجموعة الآيات التي تليها بالحديث عن مسائل الشريعة، تعود فتستهل بتكرار ذكر أنواع الناس الثلاث في الآيات (204، 207، 212)، وفي أثناء ذلك تأمر المؤمنين بالدخول في السلم كافة (الآية 208)، بمعنى كل الدين بعباداته وشرائعه وأحكامه وحدوده دون تضييع بعضه والعمل ببعضه، فكما أن الإيمان والعبادات ضرورية لصلاح الناس كأفراد، فإن أحكام الحلال والحرام وشرائع الإنفاق والقتال وروابط الأسرة ضرورية لصالح بقاء وسعادة المجتمع بكل فئاته وأطيافه، من ذوي القربى والجار ذي القربى والجار الجنب والمساكين، وذلك بالإنفاق عليهم، وبقتال الظلمة الذين يقاتلون أهل الحق ويخرجونهم من ديارهم ويصدون عن سبيل الله، وقد جاء هذا التفصيل تمهيداً، قبل إكمال باقي الأحكام، لأن الناس مختلفين {ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه (213)} فالله تعالى وحده مالك الملك وخالق الخلق، هو وحده من يضع للناس حدود الحلال والحرام، التي تبين لهم ما يختلفون فيه في الحدود والمحارم، وتحل الخلاف بينهم في الأموال والأنفس والمباحات والمحرمات من الطيبات؛ وفي الآيات بيان أن الدنيا زُيّنت للابتلاء {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (2)} الملك، وأن الله بعث المرسلين بالحق، لكن يبقى الاختلاف والابتلاء والزلزلة فلا بد من استخدام المال والقتال كأداتين أو وسيلتين لإصلاح المجتمع للجميع والدفاع عن الدين حتى لا يصدّوا المسلمين عن دينهم وحتى يؤدوا الأمانة التي حملوها، في الإصلاح والمعروف وإقامة الحق ويوفوا بعقودهم وتختم هذه المجموعة من الآيات بآية (219) تجيب عن أسئلة المؤمنين، عن الخمر والميسر، في تناسب، وكأنها آية وسط تربط ما قبها بما بعدها من الآيات، وتنقل أو تربط الموضوعين وهي تحريم الخمر للحفاظ على العقل وإنفاق ما يزيد من المال.
002.7.8.2.2.1- الآيات (204-212) أنواع الناس الثلاثة وهم المنافقون والذين آمنوا والذين كفروا، وتأمر الذين آمنوا في الآية (208) بأن يدخلوا في السلم ولا يتبعوا خطوات الشيطان فإنه لهم عدو مبين.
002.7.8.2.2.2- الآيات (213-214) كان الناس أمّة واحدة فاختلفوا إلى هذه الفئات الثلاثة بعد أن بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فأنزل الله الكتاب بالحق ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه. وأن هذه الدنيا جعلها الله ابتلاء وزلزلة لكي ينصر الله المؤمنين ويدخلهم الجنة.
002.7.8.2.2.3- الآيات (215-220) الإجابة على أسئلة حاسمة ومفصلية في حياة كل إنسان، بعد أن سألوا عنها، وهي الأموال والشهر الحرام والقتال فيه والحفاظ على العقل والوعي واليتامى، وعن مقاصد الدين فيها: فبين سبحانه أنه ابتلاهم بإنفاق المال وبالقتال مع كرههم لذلك، لأن في ذلك تحقيق الخير الكثير لهم في الدنيا والآخرة، من الزكاة لأموالهم والزكاة لأنفسهم، وتطهيرها، وتحريرهم من مظانّ الشرك والاتكال على غير الله، وإثبات إيمانهم، ودرء الفتن، ومنع الرّدة عن الدين، وإقامة الحدود ومنع الخمر والميسر، وعدم الإفساد، والحفاظ على أموال اليتامى، وغيرها الكثير من المنافع التي سيأتي بيانها فيما تبقى من آيات السورة. ففي تلك الآيات بيان التأثير الكبير والعجيب للإنفاق والقتال في حياة الناس وإصلاح شأنها والثواب العظيم في الآخرة.
002.7.8.2.3- الآيات (221-242) بيان طريق الهدى والدين للأسرة: لقد خلق الله كل الناس من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءاً، فكانوا بذلك سواسية وأخوة في إنسانيتهم وأصل خلقتهم، مما يستلزم أن يتعاملوا فيما بينهم بالعدل والقسط وتقوى الله، وأن ينزجروا عن ظلم بعضهم وتطاول بعضهم على بعض. خلقوا في أصل فطرتهم ليكونوا شعوباً كثيرة وقبائل متمايزة، فالإنسان كائن اجتماعي يعيش في جماعة ولا يعيش منفرداً. لذلك جعل الله في الدين قوانين وأوامر ونواهي وتكاليف والتزامات يجب تطبيقها والالتزام بها والاستقامة عليها من أجل: بناء جسم سليم صحيّاً ونفسيّاً على مستوى الفرد، وبيت فيه سكن واستقرار على مستوى الأسرة، ومجتمع صالح فيه حرّية فكر وتعليم وبناء وقوانين عادلة وحفظ حقوق وأعراض ومحاربة فساد على مستوى الدولة، وكيان فيه أمن وأمان ورخاء ونعمة على مستوى الأرض التي نعيش عليها. وقد بينت هذه الآيات إلى آخر السورة أن الإنسان يعيش في نوعين من الجماعات حددت لها علاقاتها وقوانينها، والروابط فيما بينها، الأولى صغيرة وهي الأسرة والثانية كبيرة وهي الجماعات من الناس سواء في مكان واحد كالأمّة الواحدة أو في أماكن متباعدة كالأمم المختلفة والدول، (انظر سورة النور: 024.7.3.2- المجتمع الإسلامي)، وفيما يلي بيان أحكام وتشريعات في تنظيم الأسرة المسلمة ما قبل وما بعد عقد الزواج:
002.7.8.2.3.1- الآيات (221-225) تتحدث عن أحكام الزواج الصحيح في الإسلام، ووسائل الحفاظ على الأسرة، وغيرها من الأحكام والمسئوليّات ما قبل الزواج، والتي تخص الطهارة والمعاشرة بالمعروف، وعدم جعل الأَيمان مانعة من البر والتقوى والإصلاح بين الناس.
002.7.8.2.3.2- الآيات (226-242) تتحدث عن أحكام ما بعد الزواج، من الطلاق والصداق والخلع والرجعة والإيلاء والعدة والرضاع والنفقات وغيره، يتوسطها الأمر بالحفاظ على الصلوات وقيام الليل.
يجب أن نلاحظ أن الإسلام جعل نوعين من الأسباب من أجل الحفاظ على الأسرة وبقاءها، أحدها مادّي والآخر معنوي، فقد تخللت الأحكام في هذه الآيات التنبيهات إلى مراقبة الله تعالى، وعدم استغلال الأيمان حجّة في عدم البرّ وفي ترك فعل الخير فيما بينهم وبينَ الله وبين الناس، والتنبيه على ضرورة الحفاظ على الصلوات وقيام الليل في كل الظروف والأحوال. انظر تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.3.7- تكامل الأسباب المادية والمعنوية.
002.7.8.2.4- الآيات (243-283) بيان طريق الهدى والدين للجماعات والأمم: بعد الحديث عن العبادات، وبيان أركان الدين بشقيه الإسلام والإيمان، وذكر أنواع الابتلاءات التي افترضها الله تعالى على الناس، لتحقيق الزكاة للأفراد وتمييز الخبيث من الطيب، تنتقل السورة إلى مجموعة أخيرة من الآيات فيها زكاة للأسرة وللمجتمع بشكل عام، عن طريق علاج إثنين من الأمراض المزمنة التي تسري في كلّ المجتمعات الإنسانية على مرّ العصور: الأول، البخل وكنز المال، والثاني، الفساد وسفك الدماء في الأرض: وهما علاجين صعبين شديدين على النفس لأن الأول فيه التضحية بالمال والثاني التضحية بالنفس. وهما كذلك واجبان افترضهما الله تعالى من أجل تهذيب الغرائز الحيوانية في الإنسان ومحاربة شرائع الغاب التي يأتيها غالباً بجهله، وذلك عن طريق إزالة المظالم والتخلص من أخلاق الشر والفساد المتأصّلة في فطرته، ففيه جبلّتي الخير والشر معاً، قال تعالى {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء (30)} البقرة: (انظر تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.2.5- الإنفاق والقتال في سبيل الله).
تبدأ هذه المجموعة من الآيات بالحديث عن أن الموت والحياة بيد الله ثم الحث على القتال (243-252)، وأنه إذا اقتضته الضرورة فهو جزء من الدين، وهو قرض حسن يضاعفه الله أضعافاً مضاعفة، تلاه قصة عن ضرورة تُوجب القتال حصلت في بني إسرائيل؛ وأن الله سبحانه جعل القتال للضرورة، وذلك لاختلاف الناس، ولكي يدفع الناس بعضهم ببعض ولكيلا تفسد الأرض. فقصّة طلب الملأ من بني إسرائيل من نبيهم القتال، وقتل داوود جالوت، هي من آيات الله، لإعادة الحقوق إلى أصحابها، قال تعالى: {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا (246)}، وفي الآيات (253-260) هي كذلك تجربة نتعلّم منها أن الله فضّل بعض المرسلين على بعض، وأن الناس اختلفوا بعد أن جاءتهم البينات؛ ثم أن الأمر بالإنفاق هو من مقتضيات الدنيا، ثم آية الكرسي وأنه لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي، وأن الله ولي الذين آمنوا والكافرون أولياؤهم الطاغوت، وهذا يعني أن الله تعالى قد جعل للجماعات من الناس أسباباً تسعدهم وتّخرجهم من الظلمات إلى النور وأهمها الإنفاق والقتال (وهي كالعبادات أي الصلاة والزكاة والصوم والحج للأفراد)، وأن هذه أسباب الماديّة الظاهرة، يوازيها أسباب معنويّة غير ظاهرة وهي توفيق الله وتقديره الحكيم في جعل الأسباب تسير في مصلحة أولياءه، مثل نصرهم وهم قلّة، ومضاعفة الأجور لهم في الدارين، وحفظ ذرِّية الذين أصابهم الكبر والضعفاء من الناس، وهكذا، وعلى نقيضه يحصل للذين يتخذون الطاغوت أولياء، فيهزمون في القتال، ويمحق الله الربا الذي يأخذونه، ويتلف ثمارهم التي بخلوا بها، وغيره، (انظر كذلك تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.3.7- تكامل الأسباب المادية والمعنوية)؛ ثم ثلاث (3) أمثلة حول إثبات الموت والحياة (261-283) ثم يبدأ بالأمر بالإنفاق والصدقات والنهي عن الربا، وإقراض المال، كما يلي:
002.7.8.2.4.1- الآيات (243-252) القتال وشروط إقامته: دروس بليغة عن جماعة {خرجوا من ديارهم} فراراً من الموت فلم ينفعهم جهدهم في اتقاءه. وعن تجربة في حياة بني اسرائيل من بعد موسى في قصة طالوت وداود وجالوت، تبين أن الكثير من الناس لا يصبر ويتراجع أمام الابتلاء، ولا يثبت إلى النهاية إلا الفئة المختارة المؤمنة بوعد الله، وأن الحكمة من القتال هو صلاح الأرض وعدم فسادها، قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّـهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)}
002.7.8.2.4.2- الآيات (253-257) الله حيّ قيّوم عليم عليّ عظيم له كلّ شيء ويفعل ما يريد: فضّل بعض الرّسل على بعض درجات، وجعل الناس مختلفين مؤمنين وكافرين فاقتتلوا، أمرهم بالإنفاق (لإصلاح حياتهم)، وعرّفهم على أسمائه وصفاته، وأنه {لا إكراه في الدين}، فمن آمن فالله وليّه يخرجه من الظلمات إلى النور، ومن كفر فالطاغوت وليّه يخرجونه من النور إلى الظلمات.
تخللتها آية الكرسي، وهي تعدل ثلث القرآن، وسيدة آي القرآن، فيها التوحيد الخالص، وفيها 17 اسماً من أسماء الله (ظاهراً أو ضميراً وهي: الله، هو، الحي، القيوم، والضمائر التسعة في لا تأخذه، له، عنده، إلا بإذنه، يعلم، علمه، شاء، كرسيه، يؤوده، وفاعل المصدر المضاف إلى المفعول في حفظهما، وهو، العلي، العظيم)، وغيرها من الفضائل لهذه الآية، وفي الحديث الصحيح، فالآية تحفظ الإنسان من العدو المتربص، وهو الشيطان كما أشارت إليه الآيات التي بعدها، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ (286)} والحفظ من الشيطان ضرورة.
002.7.8.2.4.3-الآيات (258-260) الإشارة إلى آيات قدرة الله على خلق الحياة والموت والبعث.
002.7.8.2.4.4- الآيات (261-274) بيان فضل الإنفاق والصدقات يضاعفها الله إلى سبعمائة ضعف وأكثر، (والتي جعلت ابتغاء مرضاة الله وابتغاء وجهه وتثبيتاً من أنفسهم وخير لهم).
002.7.8.2.4.5- الآيات (275-281) تحريم الربا: فبقدر ما يدل الإنفاق في سبيل الله على النفس الخيرة، يدل الربا على النفس الشريرة الجشعة المستغلة. يخبر الله بأنه يمحق الربا: أي يذهبه إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعدمه في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة.
002.7.8.2.4.6- الآيات (282-283) أحكام الرهن والتجارة والبيع: آية الدّين تدل على البديل عن الربا، وفيها ضبط التعامل بين الناس في الديون والبيوع.
بعد الإنفاق في سبيل الله ذكرت الآيات حرمة الربا، وهذا النوع من الترابط يسمى ربط التضاد، والمناسبة بينهما أن كلاً من المنفقين ينفق اليسير طمعاً بالكثير، المنفق في سبيل الله طمعاً ورغبة بثواب الله عز وجل الذي يربي الصدقات، والمرابي طمعاً بما عند الإنسان الفقير المدين. ثم ذكرت بعدها آيات المداينة، وأكثر ما يؤخذ الربا في معاملات المداينة ولذا أتبعه بذكر آية الدين التي هي أطول آيات القرآن الكريم، ولأن معاملات الدين تطول بالتسويف والمماطلة (جاءت آيتها أطول آية في القرآن)، ثم آية لله ما في السماوات والأرض (أي لله الأموال والأرواح وغيرها، ويعلم الظاهر والخفي، وغير ذلك)، ولأن كل شيء لله فهو يحاسب الجميع فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، فتأمل هذا التناسق والتناسب المعجز بين الآيات.
خلاصة هذه الآيات (243-283) هي أن الوسائل المادّية أو أدوات الحفاظ على بقاء المجتمع قائم على وسيلتين لا يختلف اثنان على ضرورة وجودهما لقيام الأمان ولبقاء المجتمع (الدولة) هما: الأولى القتال وعدم الظلم بشروطه التي وضعها خالق الناس والثانية الإنفاق بشروطه التي وضعها خالق الناس، واجتناب الربا، في مجتمع قائم على لا إكراه في الدين، وفيه الآية: {اللَّـهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، مقابل {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}، فهي أدوات تطبيق الهدى وبقاء المجتمع والأمان، (انظر تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.2.5- الإنفاق والقتال في سبيل الله).
بإضافة آيات بيان طريق الهدى في الأسرة إلى آيات بيان طريق الهدى في الجماعات، وكما بيّناه أعلاه فإن مجموعها هو (221-283) = 63 آية = 22.03%؛ وهو عدد مساوي تقريبا لعدد آيات بيان طريق الهدى للأفراد (142-203) = 62 آية = 21.68%.
002.7.8.2.5- الآيات (284-286) خلاصة وخاتمة: عن مقصد السورة وهو: التكليف من الله الذي له كلّ شيء، واستجابة المؤمنين.
لقد خلق الله الناس لكي يحبهم ويحبونه، وهو حب مبنيّ على التربية الربّانية السليمة على صراط الله المستقيم، وعلى تقوى الله وطاعته وحده لا ندّ له ولا شريك، والاتباع الصادق لهديه ممثلاً بدينه الإسلام، الموصل إلى محبة الله، قال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ (165)} البقرة. وقد لخصت شروط هذه المحبّة في الآيات الثلاثة الأخيرة من السورة، في معادلة سهلة، وهي: التكليف من الله الذي له كلّ شيء، والاتباع من المؤمنين، راجين رحمته على تقصيرهم، ومغفرته لذنوبهم، كما يلي:
002.7.8.2.5.1- الآية (284) التكليف من الله سبحانه وتعالى: بالإيمان بأن له ما في السماوات وما في الأرض، وأنه لا يكلّف نفساً إلا وسعها، وأن كل نفس محاسبة على ما كلفت به من العمل بالإيمان والهدى. وهذه الآية تُلخّص كل طريق الهدى: بأن الله له كلّ شيء، ومطلع عليه، وقدير على كلّ شيء، وأن الإنسان محاسب على كلّ شيء، وأن الإنسان بيده اختيار طريق المغفرة أو طريق العذاب.
002.7.8.2.5.2- الآيات (285-286) آمن الرسول والمؤمنون: بعد أن افتتحت السورة بأن الكتاب هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون ويؤمنون بما أنزل الله على رسوله وعلى الرسل من قبله ويوقنون بالآخرة. وبعد أن بيّنت أن أهل الكتاب وخاصة اليهود كفروا قابلوا نعمة والهداية بمعاداة الملائكة، والتفريق بين الرسل والكتب، فاستبدلهم الله بأمّة محمد صلى الله عليه وسلم (سنة الله في استبدال الأمم الكافرة بالمؤمنة)، فقد آمنوا (بشهادة القرآن) بالله وملائكته وكتبه ورسله ولم يفرقوا بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا، (تضمنت الآيات أركان الإيمان) واعترفوا بعجزهم عن القيام بحق الإجابة وشكر النعمة، فطلبوا من ربهم المغفرة والرحمة والنصر، فاستجاب لهم ربهم بأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها، وفي هذه الآيات البشارات العظيمة وتمام النعمة ومحبة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وأمته، واصطفائهم بالإيمان، والمغفرة والرحمة والنصر، وبقاء الأمة ما بقيت على الإيمان إلى قيام الساعة. فكانت هذه الخواتيم للسورة كما وصفت في الحديث: “أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يعطهن نبي قبلي”.
أخيراً: من سياق السورة أعلاه، نعلم أن الإنسان على هذه الأرض ليس حرّ مطلق (كذلك كلّ المخلوقات)، بل له حرّية مقيّدة بقوانين وأسباب، قد جعلها الله بقصد تحقيق سعادته، وسعادة غيره من الناس، (ومن يشاركونهم المعيشة على الأرض كذلك)، وجعلها الله كذلك لطهارة الناس وزكاتهم ورقيهم في درجات العلم والفلاح، ضمن ثلاثة مجموعات من الروابط، والمسئوليات، أو ضمن ثلاثة حلقات معيشيّة يدور في أفلاكها: الحلقة الأولى وهي الصغرى، مسئوليته كفرد، والثانية الوسطى كأسرة، والحلقة الثالثة الكبرى كجماعة (انظر سورة النور: 024.7.3.2- المجتمع الإسلامي)؛ وأن زكاته ورقيّه في درجات الفلاح {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} الشمس، تتم بقدر التزامه بالعبادات والأحكام والشرائع التي فرضها الله عليه، كفرد بين أفراد وكفرد في أسرة وكفرد وأسرة في جماعة بين جماعات، ومن هذا السياق نعلم أيضاً أن التحرر من القيود والروابط التي جعلها الله الذي له ما في السماوات والأرض هو إثم، يحاسب ويعاقب عليه الله في الآخرة بالعذاب، وفي الدنيا بقوانين وشرع الله، ومن هذه القوانين في الدنيا على سبيل المثال: القصاص لأن فيه حياة الناس، وتحريم الربا لأن فيه منع أكل أموال الناس بالباطل، وقتال المعتدين، والذين يصدون عن سبيل الله، وغيره مما بينته السورة. لذلك جاء هذا النصف الثاني من السورة، كما بيّناه، في خمسة مجموعات من الآيات (وفيها 21 موضوعاً)، كما يلي:
1- ابتلاء من أجل التطهير والزكاة للأفراد عن طريق العبادات (وفيها 8 مواضيع)،
2- الناس تعيش في جماعة والناس أنواع ثلاثة (وفيها 3 مواضيع)،
3- تطهير حياة الأسرة تنظيم لبنة الجماعة هي الأسرة عن طريق الشرائع والروابط التي تحميها واستخدام المال كوسيلة (وفيها 2 موضوع)،
4- ثم هذه الأسر تعيش في جماعات تطهير وزكاة المجتمع (وفيها 6 مواضيع)،
5- خاتمة لا يكلف الله نفساً إلا وسعها (وفيها 2 موضوع).
ونستطيع (وبطريقة أخرى) أن نلخّص بأنّ طريق الهدى في سورة البقرة بشكل خاصّ (وفي القرآن بشكل عام) يتضمّن ثلاثة أنواع من الأحكام والشّرائع تخصّ ثلاثة حالات إنسانية مختلفة، كما يلي:
1- الآيات (142-203)، حول أحكام وتشريعات تخصّ الأفراد: وهي الدّين بدرجاته الثلاث الإسلام والإيمان والإحسان، ويربطها طريق التقوى الواصل بينها. يليها الآيات (204-220) عن بيان أنواع الناس الثلاثة وفئاتهم واختلافهم، إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين.
2- الآيات (221-242)، حول أحكام وتشريعات تخصّ البيت المسلم وتنظيم الأسرة: من زواج وطلاق ومعاشرة بالمعروف وصلة أرحام، وإنفاق وعدل وقسط وتحريم الظّلم والتّطاول على الحقوق.
3- الآيات (243-283)، أحكام وتشريعات تخصّ الأمم والجماعات وتنظيم شؤونها وإحكام تماسكها: عن طريق الإنفاق والقتال، من أجل علاج إثنين من الأمراض المزمنة التي تسري في كلّ المجتمعات: الأوّل، البخل وكنز المال، والثاني، الفساد وسفك الدماء في الأرض.
يليها جميعاً الآيات (284-286)، لبيان مصدر الأحكام وهو الله الذي له كلّ شيء، وأنّه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (286)}.
002.7.8.3- وباختصار: فإن تدبّر سورة البقرة باعتبار ترتيب آياتها يُظهر أنها تنقسم إلى نصفين متساويين تقريباً في عدد آياتها: النصف الأوّل هو كالمقدمة والتمهيد للنصف الثاني، ويغلب عليه الطابع العملي من أمثلة وقصص وآيات ختمت بقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ}. والنصف الثاني هو خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم لكي يتعلموا من أخطاءِ وتجارُبِ الأمم التي خلت، ويغلب عليه الطابع الخبري في بيان أركان الدين والأحكام، وخُتم بقوله تعالى: آمن الرسولُ والمؤمنون. وكل من النصفين يتكوّن من خمس مجموعات من الآيات كما يلي:
النصف الأول، ابتدأ بِ (الآيات 1-20) ببيان طريق الهدى، وأنواع الناس الثلاث، والدعوة إلى تطبيق الهدى أي العبادة؛ ثم ملخص مختصر (في الآيات 21-29) عن بدايات الإنسان ومصيره، وعن المقصد من خلقه وتعليمه، والعوالم المحيطة به، وضرب الأمثال، وتدبّر الآيات والأسباب ونتائجها؛ ثم ثلاث قصص، هي قصة آدم وبداية التكليف (الآيات 30-39)، التي تظهر تطلعاته وأمنياته وعداوة الشيطان له؛ وقصة انحراف بني إسرائيل وغضب الله عليهم (الآيات 40-123)؛ وقصة استقامة إبراهيم عليه السلام (الآيات 124-141) وطاعته المطلقة واستسلامه لربه ودعواته لذريته بالهدى.
وابتدأ النصف الثاني بِ (الآيات 142-203) بتوجيه التعليمات والأوامر والنواهي والبشائر والنذر للمسلمين، لكي يصيروا مؤهلين ومستعدّين لخلافة الأرض، وذلك ببيان طريق الهدى والتقى والزكاة للأفراد من إيمان وعبادات؛ ثم بيان أصناف الناس الثلاث (الآيات 204-220) وفئاتهم واختلافهم، والأمر بالدخول في السلم كافّة؛ ثم الحديث عن تفاصيل طريق الهدى والدين للأسرة (الآيات 221-242)، والروابط الأسرية وتشريعاتها؛ ثم أحكام طريق الهدى والدين للجماعات والأمم (الآيات 243-283)، والعلاقات والشرائع والقوانين التي تحكمها؛ ثم تختم بثلاث آيات (الآيات 284-286) تلخص مقصد السورة وهو: صفات الله تعالى، وأنّ له كلّ شيء، وهو قادر على كلّ شيء، وصفات الناس، بأنّهم ينسون ويخطئون، وأنهم محاسبون على ما في قلوبهم، وعلى أعمالهم وإيمانهم، فيغفر الله لمن يشاء ويعذب من يشاء.
نسأل الله أن يجعلَنا من عباده المؤمنينَ المتقين والمهتدين إلى صراطهِ المستقيم.
002.7.9- التناظر والتكامل بين نصفي سورة البقرة:
تضمنت السورة نصفين متناظرين ومتشابهين في مواضيعهما، في كلّ منهما خمس (5) مجموعات من الآيات، كلّ مجموعة تناظر وتكمل في مواضيعها وتفصيل معانيها نظيرتها المقابلة لها في النصف الآخر، أي: ما أُجمل في النصف الأوّل فصّل في النصف الثّاني والعكس صحيح، كما يلي:
002.7.9.1- المجموعة الأولى في النصف الأوّل، في الآيات (1-20): وهي مقدمة تبين أنّ الهدى في الكتاب، وهو للمتّقين، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون، أي يؤمنون بالله ويعبدونه، وأنّ الناس في قبولهم الهدى ينقسمون إلى ثلاثة فئات: المؤمنون والكافرون والمنافقون.
يناظرها في النصف الثاني، الآيات (142-203): بيان معنى الهدى بكلّ تفاصيله، صعوداً من الإعلام عن مصدره إلى معناه إلى مقصده إلى درجاته إلى دوافع قبوله وأسباب الإعراض عنه، كما يلي:
هذه المجموعة من الآيات فيها بيان: معانى الهدى الذي في الكتاب، وأسبابه، والدّين بدرجاته، والابتلاء بأنواعه، وبيان اختلاف الناس من بعد ما جاءهم الهدى، وأسباب إيمانهم وإعراضهم، كما يلي:
1- (الآية 142) الهدى هو من عند الله إلى الصراط المستقيم، وأن من الناس من يهتدي بهدى الله ومنهم لا يهتدي (كلّ بمشيئته).
2- (الآيات 143-150) الله أرسل الرّسول بالهدى (وهو الحق وهو الصّراط المستقيم) ليختبر الناس، وأن لكلّ وجهة هو مولّيها بإرادته ومشيئته (فإما الإيمان أو الكفر).
3- (الآية 151) سبب الاختبار أو الابتلاء: هو الزّكاة والتعلم بالتّجربة، قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)}، للوصول إلى محبة الله {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ (165)}، خلق الله الإنسان لكي ينعم ويسعد بالمعرفة والعلم والزكاة بطاعته وعبادته، وذروة أو منتهى سعادة الإنسان هي محبّة الله.
4- (الآيات 152-162) جعل الله تعالى نوعين من الاختبار أو الابتلاء، وهما: ابتلاء تكليفي بأداء التكاليف والشعائر التي فيها سفر ومشقّة كالحج، وابتلاء قدري: بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، والاستعانة على الابتلاء بالصّبر والصلاة.
5- (الآيات 163، 164) ذكر أسماء الله التي تَميّز الإنسان بقدرته على معرفتها، بالزّكاة والعلم والتجربة، قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} أي: توحيد الله وأسمائه وصفاته، واختص منها بِ {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} بمخلوقاته، وإقامة الدّليل عليها من آيات الله في السّماوات والأرض وما بينهما، التي تجعل الذين آمنوا شديدي الحبّ لله، لكن مع الأسف من الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبّونهم كحبّ الله.
6- (الآيات 165-176) بيان سبعة (7) أشياء تحول دون الإيمان، وتحرف الإنسان عن اتباع طريق الحق وهي: اتخاذ النّاس أنداداً من دون الله، واتباع خطوات الشيطان، واتباع ما عليه آباءهم من الباطل، وصمّ بكم عمي فهم لا يعقلون الحق، وكتمان ما أنزل الله من الكتاب، واشتروا الضلالة بالهدى، واختلافهم في الكتاب فهم في شقاق بعيد. ولو أنهم اهتدوا وأطاعوا الرّسول وشكروا ما رزقهم الله وعبدوه لتحقق لهم الفلاح والأمان.
7- (الآية 177) تلخيص ما سبق ذكره من بداية النصف الثاني عن الدّين بدرجاته الثلاثه: الإسلام والإيمان والإحسان، في آية البرّ، وهي آية واحدة بيّنت معنى الهدى للمتّقين، وهو الصراط المستقيم، فاكتمل بالآية البيان، وصارت كالعنوان، والتمهيد لما سيأتي تفصيله عن ما تبقى من معاني الهدى وأركان الدّين إلى آخر السورة.
8- (الآيات 178-182) تحقيق العدالة في الحياة وحفظ حقوق العباد بالقصاص والوصية.
9- (الآيات 183-187) أحكام فريضة الصيام، ويتخللها الكفارة والإطعام والدعاء.
10- (الآيات 188-195) حرمة الأموال والمواقيت وحرمة البيوت ثمّ القتال للدفاع عن الحقوق وردّ العدوان ودفع الفتن والإنفاق في سبيل الله.
11- (الآيات 196-203) أحكام ومناسك فريضة الحجّ بالتفصيل.
12- وتختم هذه المجموعة الأولى من الآيات في النصف الثاني (كما في النصف الأوّل) ببيان فئات الناس، وأن منهم من يريد الدنيا، ومنهم من يريد الآخرة {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)}.
002.7.9.2- المجموعة الثانية، في الآيات (21-29): أمرت الناس بعبادة الله الذي خلقهم والذين من قبلهم، وهو ما خلقوا لأجله، ثمّ ذكرت ما سخّره الله تعالى من الأسباب، وهيّأه لهم لعبادته، كما يلي:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ (21)}، الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءاً ورزقكم في الدّنيا، ثم يعيدكم إلى الجنّة خالدين في الرزق والأزوج والنعيم. فلا تفسدوا فتخسروا ولا تكفروا فإنكم إلى الله راجعون. بدأ بالأمر بالعبادة قبل الإشارة إلى سابق نعمه عليهم، وهي قاعدة عامّة أو أسلوب مطّرد في القرآن يدلّ على أن نعمة العبادة مقدّمة على (وأعظم من) النّعم الأخرى، وكلّها تابعة للعبادة، وقد أشرنا إليه أعلاه (انظر 002.6.1.1). فالله تعالى ما خلق الإنس (والجنّ) إلا لعبادته، أمّا الأرض فهي مسخّرة وتابعة لخلق الإنسان للعبادة.
أمّا الدّليل على صدق التنزيل (أي القرآن: وفيه كلامه تعالى وهديه) وأنّه الحق، فهو: أنّهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، ولا يستطيعون أن يخلقوا ما بعوضة فما فوقها، وكانوا أموات فأحياهم، وخلق لهم ما في الأرض، وأنّه بكلّ شيء عليم.
يناظرها في النصف الثاني، الآيات (204-220): إكمال أحكام ما ابتدئ به، وهو الأمر بالعبادة، عن طريق بيان ثمرة ونتائج الالتزام بالأمر بالعبادة، كما يلي:
1- بدأت هناك بخطاب الناس {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}، وهي هنا تفصّل ماذا فعل الناس (كأفراد)، ثمّ أعقبها المزيد من التفصيل في المجموعة الثالثة خطابهم كأزواج (في أسرة) وفي الرابعة كأمم (وجماعات).
2- ذكر اختلاف الناس في قبولهم الهدى إلى ثلاثة فئات مرّتين، في الآيات (200، 201، 204) والآيات (204، 207، 212) مع الإشارة إلى أسبابه، وهي أن منهم من يريد الدّنيا بالإثم والعدون ومنهم من يريدها بمرضاة الله، فاختلفوا إلى ثلاث فئات: المؤمنون والكافرون والمنافقون.
3- أمرت هناك النّاس بالعبادة، وأمرت هنا المؤمنين بالدّخول في السّلم كافة، بمعنى كلّ الدين بعباداته وشرائعه وأحكامه وحدوده، دون تضييع بعضه والعمل ببعض.
4- التحذير من الشيطان العدوّ المبين {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)}.
5- وأن الحياة الدنيا زينة مؤقتة سخّرها الله تعالى للعمل للآخرة.
6- ذكرت هناك أنهم إليه راجعون {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}، وهنا أنه إليه ترجع الأمور {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)}.
7- ذكر هناك مثال خلق البعوضة، وهنا مثال عن قصة بني إسرائيل واستبدالهم الآيات والنعمة بالكفر.
8- ذكر هناك أنهم جعلوا لله الأنداد وتكذيبهم بالتنزيل ونقضهم وفسقهم وكفرهم وإفسادهم، وذكر هنا أن سبب اختلافهم هو بعث النبيين بالحق فمنهم من آمن ومنهم كفر.
9- أمر هناك بالإيمان والعمل الصّالح للفوز بالجنة، وبيّن هنا أنّ الله جعل الابتلاء (بقصد) من أجل تعليمهم وزكاتهم ورفعتهم. وأنّ من الابتلاء: تبديل الكفار للنّعمة، وظهور الاختلافات والفساد والكفر والسخرية.
10- ذكر هناك أن الله يحييهم ويميتهم {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ (28)}، وخلق لهم كلّ شيء {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا (29)}، وبيّن هنا أن الإنفاق والقتال مكروه لهم كأفراد لكنه خير للحفاظ والدّفاع عن الأمّة والدين ثمّ الفوز برحمة الله ومغفرته {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}. وكذلك تحريم الخمر للحفاظ على العقل وإنفاق المال وكفالة اليتيم.
002.7.9.3- المجموعة الثالثة، في الآيات (30-39): قصّة خلق الإنسان، وأن الله فضّله على غيره بميّزتان، فيهما فلاحه وزكاته ومحبّته لربّه، هما العلم والعمل. الميّزة الأولى: أنّ الله فضّله بالتعلّم فيرقى ويتميز على غيره، ويتعلم بالتلقين المباشر إفعل أو لا تفعل، ثمّ بالعمل حتى يصير خير البريّة. والثانية: أنه يعمل مختاراً فيصيب ويخطئ، ويخالف الحقّ وأمر ربّه، ويفعل ما فيه ضرره، فيكافأ على الخير بالبقاء في رحمة الله ونعيمه، ويعاقب على الشرّ بالطرد من رحمة الله حتى يتوب، فيتوب الله عليه بعد أن يؤدّبه بالعقاب المكافئ لذنبه، فيتعلم بالتجربة ويتزكّى ويرتقي بالعمل الصالح والإيمان والإحسان حتى يحبّه الله ويغفر له ويرحمه ويتوب عليه.
فمفهوم الخلافة هنا هي باتباع الهدى التي ستمنع الفساد وسفك الدماء (إي: إفعل أو لا تفعل)، ابتدأت الآيات بِقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (30)}، فقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ (30)}. لقد علمت الملائكة أنّ المخلوق إذا استخلف وتحكّم في مخلوق آخر فالنتيجة إفساد وسفك دماء. قد يكون ظهر لها هذا من طبيعة وتركيبة الإنسان، وقد يكون بتعليم الله تعالى، والله أعلم، لكن المهمّ أن نعلم (من الآيات) بأنّ خلافة الإنسان فيها إفساد وسفك دماء. ثمّ قال: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا (31)}، أي أسماء الأشياء والألفاظ والمعاني، وقد يكون من التعليم ما جعله تعالى بالفطره كمعرفة المعروف وإنكار المنكر، وقد يكون منه أيضاً تعلّم الهدى إلى الطريق المستقيم وحدود الخلافة، والله أعلم. فلمّا علّمه ثمّ أمره ثمّ عصى فأهبطه من الجنّة، فختمت الآيات بقوله: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}، فالخلافة هنا هي باتّباع طريق الهدى إلى الصّراط المستقيم التي ستمنع الفساد وسفك الدماء، كما فصّلته السورة. أي: أعبد الله بالصلاة والصيام والحج والزكاة تصلح حياتك كفرد فتزكوا، واعبده باتباع شرعه والتزام حدوده في الحلال والحرام تصلح الدنيا بلا فساد وتصلح حياة الناس كجماعة بسلام وأمان ودون سفك دماء.
يناظرها في النصف الثاني، الآيات (221-242): بالنّهي عن العيش مع المشركين والأمر ببناء الأسرة المؤمنة التي تدعوا إلى العمل للفوز بالجنّة. وتبيّن بأن الحياة الزوجيّة (الأسرة) هي نعمة للبقاء والتكاثر والسّكن، وكذلك قد سخّرها الله تكليفاً واختباراً لتمام الدّين والعبادة وإعمار الأرض. فقد جعل تعالى فيها زوج وأسرة مؤمنة تدعو إلى الجنة، لا مشركة تدعو إلى النار، يعني أن وجود الأسرة هو جزء من الابتلاء وحمل الأمانة والمسئولية عدا عن كونه مسخّر لدوام بقاء النّاس على الأرض، تماماً كتسخير ما في السّماوات والأرض.
وحياة الناس لا تكتمل ولا ترتقي إلا بوجودهم زوجين أو جماعة، بدليل سكنهم في الجنة زوجين {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ (35)}، وفي الأرض زوجين، وعند العودة إلى الجنة يعودون أزواجاً {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ (25)}، فهذه المجموعة من الآيات تفصّل معاني وأحكام وقوانين وشرائع ومقاصد هذا الزواج المطهّر، كما يلي:
1- تبدأ بالنهي عن العيش مع المشركين والأمر بإنشاء البيت المؤمن الذي يدعو إلى العمل للفوز بالجنّة والمغفرة {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ (221)}.
2- الطهارة من الذنوب والآثام {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)}
3- العمل بالتقوى والتقديم للآخرة {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)}
4- الأمر بالبرّ والتقوى والإصلاح بين الناس.
5- الأعمال بالنيّات وبما كسبت القلوب {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ (225)}.
6- المعاملة بالعدل والإصلاح وعدم كتمان الحق {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ (228)}.
7- المعاملة بالمعروف والإحسان وعدم المضارّة {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ (229)}.
8- إقامة حدود الله وعدم الاعتداء عليها {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}.
9- النهي عن الظلم وعن اتخاذ آيات الله هزواً {وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا (231)}.
10- التراضي بالمعروف أزكى وأطهر {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ … ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ (232)}.
11- التعامل بالتشاور والتراضي وعدم المضارّة {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا (233)}.
12- الحذر ومراقبة الله أثناء المعاملة {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ (235)}.
13- الإنفاق على قدر الحال والغنى والسّعة، وهو حق واجب على المحسنين {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ (236)}.
14- الترغيب بالعفو فهو أقرب إلى خشية الله وتقواه وطاعته والتذكير بالإفضال والإحسان والتسامح {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ (237)}.
15- الأمر بالمحافظة والمواظبة على الصلاة مطيعين قانتين ودوام ذكر الله {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)}.
16- لقد فطر الله الناس على معرفة المعروف وإنكار المنكر، وقد تكررت كلمة “معروف” في هذه المجموعة من الآيات اثنتا عشرة (12) مرّة من أصل خمس عشرة (15) مرّة في سورة البقرة كاملة. ومن الملاحظ أيضاً أن نقيضتها وهي كلمة “المنكر” لم تذكر بكل مشتقاتها في السورة إطلاقاً، بينما تكررت “المنكر” في القرآن خمس عشرة (15) مرّة. وسورة البقرة هي أكثر سورة تكررت فيها كلمة “معروف” خمس عشرة (15) مرّة من أصل ثمان وثلاثون (38) مرّة في القرآن.
فالتناظر والتكامل بين هاتين المجموعتين من الآيات واضح ونستقرئ منه: في النصف الأول: أن الله اصطفاكم وميّزكم بالعلم والخلافة، وجعلكم خلفاء على الأرض ليهديكم ويعلّمكم طاعة ربكم ويزكّيكم بعد أن عصيتم أمره في الجنة ثم يعيدكم إليها {قلنا اهبطوا منها …. فإما يأتينكم مني هدى ….}. يقابلها في النصف الثاني: تفصيل معنى الهدى وهو كل ما ذكر أعلاه عن الدّين بدرجاته الثلاث مع وجود البيت المسلم في الجماعة المسلمة وما ينتج عنه من شرائع ومعاملات بقصد الاختبار والزّكاة والتعلّم ومعرفة أسماء الله وأفعاله وصفاته.
002.7.9.4- المجموعة الرابعة في الآيات (40-123): تتحدّث بالتفصيل عن مسار الهدى في بني إسرائيل كأمّة واحدة، بعد نجاتهم وخروجهم من حكم آل فرعون وتفضيلهم بالرسالة على العالمين، وتتضمّن بيان جدالهم وتبديلهم وعصيانهم وعدوانهم وكفرهم وظلمهم واتخاذهم العجل وقسوة قلوبهم وقتلهم أنفسهم وقتلهم الأنبياء بغير حق وشرائهم بآيات الله ثمناً قليلاً وحرصهم على الدنيا والحياة وحبّ البقاء فيها فاشتروا الدنيا الفانية بالآخرة الباقية، كذلك الإشارة إلى عداوتهم المزمنة مع كلّ الأمم وخاصّة النّصارى وكذلك شدّة وعداوتهم وحسدهم لآخر الأمم أمّة محمدّ صلى الله عليه وسلم.
يناظرها في النصف الثاني الآيات (243-283): بيان السنن القدريّة التي تتحكم في الأمم والمجتمعات الكبيرة من الناس، وأهمّها سنّة التّدافع، قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} بمعنى: القتال الدائم بين الإصلاح والإفساد، أو الحق والباطل، كما بينته الآيات، وأنها فضل من الله ونعمة، يدفع بها الظلم وتتحقق العدالة (كالتي تحققت لبني إسرائيل)، وكذلك بيان السّنن الشرعيّة والأحكام التي تحكم هذا التدافع، وأنّ من مقاصدها وأسبابها تحقيق الإصلاح في الأرض. أي أن التدافع بين الناس هو بسبب اختلافهم، الناتج عن سنّة الله في تفضيل بعض الناس على بعض بالإيمان والأموال والإنفاق وغيره، بقصد إصلاح الأرض، وأنّ هذا التفضيل والتسخير بين الناس (كتفضيل بني إسرائيل بالرسالة، وفرعون بالملك) هو ابتلاء، ولو شاء الله لانتصر لدينه وللحق بدون قتال، قال تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ (4)} محمّد. بمعنى آخر أنّ التّدافع بالقتال والتفضيل بالملك والأموال وغيره هو لإجل إصلاح وإعمار الأرض وهو كذلك ابتلاء بالأعمال، قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (2)} الملك، وهي من الأمور التي فيها زكاة وإصلاح للمجتمع بشكل عام، عن طريق علاج إثنين من الأمراض المزمنة التي تسري في كلّ المجتمعات الإنسانية على مرّ العصور: الأول، البخل وكنز المال، والثاني، الفساد وسفك الدماء في الأرض، وفيها ستة (6) مواضيع، كما يلي:
1- تأكيد أن الموت والحياة بيد الله ثم الحثّ على القتال.
2- سنّة الله في تفضيل بعض المرسلين على بعض، وكذلك تفضيل النّاس بالإيمان والأموال والإنفاق وغيره.
3- قدرة الله على خلق الحياة والموت والبعث.
4- فضل الإنفاق والصّدقات التي يضاعفها الله إلى سبعمائة ضعف وأكثر، وأن الفضل بيد الله الغني الحميد.
5- تحريم الرّبا: فبقدر ما يدلّ الإنفاق في سبيل الله على النفس الصّالحة الخيرة، يدل الرّبا على النفس المفسدة الشرّيرة الجشعة المستغلة.
6- أحكام الرّهن والتّجارة والبيع: لأجل ضبط التعامل العادل بين الناس في الأموال وحفظ حقوقهم.
ومن جميل نظم هذه الآيات: أنّها استهلّت بالتأكيد على أنّ الموت حقّ، وأن الفرار منه غير ممكن لأنه مكتوب عليهم ومدركهم أين ما كانوا، وملاقيهم مهما بلغ حذرهم وبلغت كثرتهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ (243)}، وفيه تمهيد لمضمون الآيتين بعدها عن الأمر بالقتال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)}، والإنفاق: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}. وكلّه تمهيد لما تمّ تفصيله في المجموعة:
عن قصّة قتال بني إسرائيل مع طالوت وداوود ودخولهم الأرض المقدّسة، والإعلام عن أنّ قيام الأمم والجماعات يحتاج إلى وسيلتين ضروريتن لبقائهما، لا غنى عن أحدهما، الأولى: (في الآيات 246-253) وهي القتال في سبيل الله لصدّ العدوان والدّفاع عن الجماعة: {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا (246)}، والثانية: (في الآيات 254، 261-274) حول الإنفاق في سبيل الله وكل وجوه الخير: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} ومعها الآيات (275-283) عن حرمة أخذ المال بالباطل وشرع الله تعالى في إنفاقه وأسس التعامل فيه. ويصل ما بين هذين الأمرين (أي: القتال والإنفاق) الآيات (255-260) وفيها أسماء الله تعالى الحسنى وصفاته الفضلى التي تعرّف بأنّه صاحب الأمر بالقتال والإنفاق، اختباراً، والمجازي عليهما، وهو مالك الأموال والأنفس ومقدّرها وباسطها كما يشاء، بدأت بقوله في آية الكرسي {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ} أي: الله الأحد الحيّ، مقابل موت النّاس، {الْقَيُّومُ} القائم على كل شيء، مقابل حاجتهم إليه، {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} مقابل غفلتهم وحاجتهم إلى الراحة والنوم، {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} مُلكاً وخلقاً، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} أي: بأمره، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} من أمور الدنيا والآخرة، محيط بكلّ شيء وحافظه في الماضي والحاضر والمستقبل، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)}، و{سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)}، و{يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ (257)}، و{يُحْيِي وَيُمِيتُ (258)}، و{عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)}، و{عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}.
002.7.9.5- المجموعة الخامسة في الآيات (124-141): قصّة اصطفاء إبراهيم عليه السّلام إماماً للنّاس، يقتدون به في الهدى، وكذلك جعل النبوّة والكتاب في ذريته.
وقصّة إمامته عليه السّلام لأمّة الإسلام ظلّت آية على أنّ الإسلام هو دين جميع الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ (19)} آل عمران، وقد ثبتت إمامته للنّاس بأمر القرآن لخاتم المرسلين وأمّته باتّباع ملّته، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)} النحل، كما أنزلت الكتب على موسى وداود وعيسى عليهم السلام وهم من ذرّيّة إبراهيم، وكذلك بادّعاء كل طوائف أهل الكتاب وحتى المشركون انتمائهم إليه.
وبيّنت الآيات بعض أسباب هذا الاصطفاء: وهي أنه أتمّ ما أمره الله به وشرعه له خير تمام، قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ (124)}، وعلوّ همّته في طاعته لربّه، وأول من بنى بيتاً للعبادة في الأرض {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)}، وجامع لخصال الخير، وكثير الدّعاء {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}، ومن دعواته” {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: “أنا دعوة أبي إبراهيم”، ودائم الهمّ والتفكير بصلاح ذرّيته من بعده، ونُصحه لعباد الله، ومحبته أن يدوم فيهم الدّين، ووصيّته باتّباع دين الله الإسلام {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}، فإن كان أهل الكتاب يزعمون أنّهم على ملّة إبراهيم ويعقوب فليتّبعوا دينهم {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}.
ويناظرها ويكمل معناها في النصف الثاني الآيات (284-286): حول إيمان الرّسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، قال تعالى: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ (285)}. وفي الآيات خلاصة معاني سورة البقرة، وتفاصيل مقصدها حول بيان طريق الهدى، وهو: أنّ كلّ ما في الكون هو لله، فليس لأحد من مخلوقاته من خيار إلّا الإيمان والانقياد والطاعة، والاستعانة به والتوسّل إليه للتمكين في الدنيا، وطلب المغفرة والعفو والرحمة للنجاة في يوم الحساب، كما يلي:
1- لله كل شيء ويفعل ما يشاء، وهو على كل شيء قدير: سيحاسبكم على نواياكم وأعمالكم وكسبكم (وهو لا يُسئل عمّا يفعل وهم يُسألون) خلق النّاس وهداهم لما خلقوا لأجله، وسوف يحاسبهم.
2- تسليم الأمر لمالكه، وطاعته باتباع هديه: فاعلم أنه قد آمن الرسول والمؤمنون، وقالوا: {سمعنا وأطعنا (285)} البقرة، لا كقول بني إسرائيل {سمعنا وعصينا (93)} البقرة. إيمانهم هذا هو مقصد السّورة، ودعوتها إلى الهدى.
3- الله هداكم ليعفوا عنكم ويغفر لكم ويرحمكم، ولا يكلف نفساً إلا وسعها، فلا يؤاخذكم على النسيان أو الخطأ ولا يحمّلكم مالا طاقة لكم به.
002.7.9.6- وهكذا لمّا كان الهدى في بداية النصف الأول كلاماً بالكتاب {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} وإيماناً بالغيب واتّباعا للدين، فهو في النصف الثاني عملاً باتباع الرّسول {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)} وصبراً على الابتلاء باتباع الدين والمسابقة بفعل ذلك. وعلمنا كذلك في النصف الثاني ما تركته السورة في النصف الأول من تفاصيل الدّين والعبادات. ولمّا ختمت المواضيع الخمسة في النصف الأول بإيمان إبراهيم وبنيه عليهم السلام، فقد ختمت المواضيع الخمسة في النصف الثاني بإيمان محمد صلى الله عليه وسلم وأمته. وعلمنا أنّ الغرض من الهدى إلى الدّين والصراط المستقيم هو الابتلاء بالإيمان والأعمال لمعرفة من يتبع الرسول حتى يصل إلى السعادة والفلاح بمحبة الله ورضوانه {وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ (165)} وهو الحق، ومن يتّبع الأنداد وهو على الباطل وفي العذاب الشديد.
هذه الرسالة والمعادلة السّهلة البسيطة التي جاءت بها السّورة الكريمة المباركة بقصصها وآياتها وأمثلتها وأحكامها وتكراراتها وتعليمها الأسماء والصفات، ولخّصتها الآيات الثلاث الأخيرة، لا تحتاج إلى كثير ذكاء ولا إلى مفسّرين ولا إلى علماء أو فقهاء أو متخصّصين، بل أي إنسان عادي، متعلم أو غير متعلم، يستطيع فهمها واستيعابها والعمل بما فيها، وهي: الله له كل شيء رحمن رحيم، خلق النّاس برحمته وهداهم إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم وسعادتهم، فرادى وأزواج وجماعات، وهو الصّراط المستقيم، وهو دين الإسلام، بدرجاته الثّلاث، إسلام: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا (21)}، وإيمان: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ (221)}، وإحسان: إنفاق وقتال، والطريق الواصل بينها وهو التقوى. فإن اهتدوا وأطاعوا فازوا برحمته ومغفرته ونصره وجنّته، وإن لم يهتدوا وعصوا خسروا وطردوا من الرّحمة والمغفرة والنّصر إلى العذاب.
002.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:
002.8.0- وتتناسب السورة مع ما بعدها بأن هَدَت سورة البقرة إلى الدين وهو الإسلام، ثمّ آل عمران إلى الإيمان، ثمّ النساء إلى الإحسان ومراقبة الله تعالى، ثمّ المائدة إلى الوفاء بعهد الله، ففيه النجاة والفوز والفلاح، وإن لم تفعلوا يستبدلكم ربّكم بقوم غيركم. وبمعنى آخر فإن سورة البقرة هدَت إلى الدين، وآل عمران إلى العمل بالدين، والنساء إلى مراقبة الله تعالى، والمائدة إلى الوفاء بعهد الله.
وكذلك لمّا هدَت البقرة إلى الكتاب وهو القرآن وهو الصراط المستقيم وهو دين الله الإسلام، وحذّرت من فعل المغضوب عليهم الذين فسقوا وحرّفوا الكتاب وهم اليهود، فقد أعقبتها آل عمران بالتحذير من أفعال الضالّين الذين ضلّوا عن الحق وهم النصارى؛ ثمّ النساء أعلمت بأن الناس أمّة واحدة في أصل خلقتهم ومقصد وجودهم وحقوقهم وواجباتهم، ولكنهم اختلفوا بأعمالهم واتباعهم، فأمرت المؤمنين باتباع دين الله القائم على الحق والعدل، وقتال أهل الكتاب والمشركين والمنافقين، بعد أن فضحت كذبهم وتحاكمهم إلى الطاغوت وقتلهم الأنبياء وأكلهم الربا؛ ثم المائدة تضمنت بيان تمام الدين، فأمرت بالوفاء بعهد الله وميثاقه الذي واثقهم به وهو عبادته واتباع دينه القويم.
002.8.1- قال الإمام جلال الدين السيوطي: قال بعض الأئمة: تضمنت سورة الفاتحة، الإقرار بالربوبية، والالتجاء إليها في دين الإسلام، والصيانة عن دين اليهود والنصارى. وسورة البقرة تضمنت قواعد الدين، وآل عمران مكملة لمقصودها، فالبقرة بمنزلة إقامة الدليل على الحكم، وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم، ولهذا ورد فيها كثير من المتشابه لما تمسك به النصارى، فأوجب الحج في آل عمران، وأما في البقرة فذكر أنه مشروع، وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه وكان خطاب النصارى في آل عمران، كما أن خطاب اليهود في البقرة أكثر، لأن التوراة أصل، والإنجيل فرع لها، والنبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم، وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب، ولهذا كانت السور المكية فيها الدين الذي اتفق عليه الأنبياء، فخوطب به جميع الناس، والسور المدنية فيها خطاب من أقر بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين، فخوطبوا بيا أهل الكتاب، يا بني إسرائيل، يا أيها الذين آمنوا، وأما سورة النساء فتضمنت أحكام الأسباب التي بين الناس، وهي نوعان: مخلوقة لله، ومقدورة لهم، كالنسب والصهر، ولهذا افتتحت بقوله: {يا أَيُها النَّاسُ اتَقوا رَبَكُم الَذي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ واحِدةٍ وخَلَقَ مِنها زوجها} وقال: {فاتقوا اللَهَ الَذي تساءَلونَ بِهِ والأَرحام} انظر إلى هذه المناسبة العجيبة، والافتتاح، وبراعة الاستهلال، حيث تضمنت الآية المفتتح بها ما في أكثر السورة من أحكام: من نكاح النساء ومحرماته، والمواريث المتعلقة بالأرحام، وأن ابتداء هذا الأمر بخلق آدم، ثم خلق زوجته منه، ثم بث منهما رجالاً كثيراً ونساء في غاية الكثرة، أما المائدة فسورة العقود، تضمنت بيان تمام الشرائع، ومكملات الدين، والوفاء بعهود الرسل، وما أخذ على الأمة، ونهاية الدين، فهي سورة التكميل، لأن فيها تحريم الصيد على المحرم، الذي هو من تمام الإحرام وتحريم الخمر، الذي هو من تمام حفظ العقل والدين وعقوبة المعتدين من السراق والمحاربين، الذي هو من تمام حفظ الدماء والأموال وإحلال الطيبات، الذي هو من تمام عبادة الله، ولهذا ذكر فيها ما يختص بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، والتيمم، والحكم بالقرآن على كل ذي دين ولهذا كثر فيها لفظ الإكمال والإتمام وذكر فيها: أن من ارتد عوض الله بخير منه، ولا يزال هذا الدين كاملاً، ولهذا ورد أنها آخر ما نزل لما فيها من إرشادات الختم والتمام وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات من أحسن الترتيب. انتهى. وقال بعضهم: افتتحت البقرة بقوله: {أَلَم ذَلِكَ الكِتابُ لا ريبَ فيهِ} فإنه إشارة إلى الصراط المستقيم في قوله في الفاتحة: {اهدِنا الصِراطَ المُستَقيم} فإنهم لما سألوا الله الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم: ذلك الصراط الذي سألتهم الهداية إليه، كما أخرج ابن جرير وغيره من حديث علي مرفوعاً: “{الصِراطَ المُستَقيم} كتاب الله”، وأخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن مسعود موقوفاً وهذا معنى حسن يظهر فيه سر ارتباط البقرة بالفاتحة، وقال الخوبي: أوائل هذه السورة مناسبة لأواخر سورة الفاتحة، لأن الله تعالى لما ذكر أن الحامدين طلبوا الهدى، قال: قد أعطيتكم ما طلبتم: هذا الكتاب هدى لكم فاتبعوه، وقد اهتديتم إلى الصراط المستقيم المطلوب المسئول، ثم إنه ذكر في أوائل هذه السورة الطوائف الثلاث الذين ذكرهم في الفاتحة: فذكر الذين على هدى من ربهم، وهم المنعم عليهم والذين اشتروا الضلالة بالهدى، وهم الضالون: والذين باءوا بغضب من الله، وهم المغضوب عليهم انتهى. أقول: قد ظهر لي بحمد الله وجوهاً من هذه المناسبات: أحدها: أن القاعدة التي استقر بها القرآن: أن كل سورة تفصيل لإجمال ما قبلها، وشرح له، وإطناب لإيجازه وقد استقر معي ذلك في غالب سور القرآن، طويلها وقصيرها وسورة البقرة قد اشتملت على تفصيل جميع مجملات الفاتحة. فقوله: {الحمد لله} تفصيله: ما وقع فيها من الأمر بالذكر في عدة آيات ومن الدعاء في قوله: {أُجيبُ دَعوَةَ الداعِ إِذا دعان} وفي قوله: {ربَنا لا تؤَاخِذنا إِن نَسينا أَو أَخطأَنا ربَنا ولا تَحمِل عَلينا إِصراً كَما حَملتَهُ عَلى الذينَ مِن قبلِنا ربَنا ولا تُحمِلُنا مالا طاقةَ لنا بِه واعفُ عنَّا واغفِر لنا وارحمنا أَنتَ مَولانا فانصُرنا عَلى القومِ الكافرين} وبالشكر في قوله: {فاذكُروني أَذكُركُم واشكُروا لي ولا تكفرون}، وقوله: {ربِ العالمين} تفصيله قوله: {اعبُدوا ربَكُم الذي خلَقَكُم والذينَ مِن قبلِكُم لعَلَكُم تَتَقون الذي جَعَلَ لَكُم الأرضَ فِراشاً والسماء بناءً وأَنزل مِنَ السماءِ ماءً فأخرج به الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأَنتم تعلمون} وقوله: {هوَ الذي خَلقَ لَكُم ما في الأَرض جميعاً ثُمَ استوى إِلى السماءِ فسواهن سبع سمواتٍ وَهوَ بكُلِ شيءٍ عليم} ولذلك افتتحها بقصة خلق آدم الذي هو مبدأ البشر وهو أشرف الأنواع من العالمين، وذلك شرح لإجمال {ربِ العالمين}، وقوله: {الرحمن الرحيم} قد أومأ إليه بقوله في قصة آدم: {فتابَ عليكُم إِنه هوَ التوابُ الرَحيم} وفي قصة إبراهيم لما سأل الرزق للمؤمنين خاصة بقوله: {وارزق أَهله مِن الثمرات مِن آمن} فقال: {ومَن كَفرَ فأَمتعه قليلاً} وذلك لكونه رحماناً وما وقع في قصة بني إسرائيل: {ثم عفونا عنكم} إلى أن أعاد الآية بجملتها في قوله: {لا إِله إِلا هو الرحمَن الرَحيم} وذكر آية الدين إرشاداً للطالبين من العباد ورحمة بهم ووضع عنهم الخطأ والنسيان والإصر وما لا طاقة لهم به وختم بقوله: {واعفُ عنَّا واغفِر لَنا وارحمنا} وذلك شرح قوله: {الرحمَنُ الرحيم}، وقوله: {مالكِ يومِ الدين} تفصيله: ما وقع من ذكر يوم القيامة في عدة مواضع ومنها قوله: {إن تبدوا ما في أَنفُسَكُم أَو تخفوهُ يُحاسِبُكُم به الله} والدين في الفاتحة: الحساب في البقرة، وقوله: {إِياك نعبُدُ} مجمل شامل لجميع أنواع الشريعة الفروعية وقد فصلت في البقرة أبلغ تفصيل، فذكر فيها: الطهارة، والحيض، والصلاة، والاستقبال، وطهارة المكان، والجماعة، وصلاة الخوف، وصلاة الجمع، والعيد، والزكاة بأنواعها، كالنبات، والمعادن، والاعتكاف، والصوم وأنواع الصدقات، والبر، والحج، والعمرة، والبيع، والإجارة، والميراث والوصية، والوديعة، والنكاح، والصداق، والطلاق، والخلع، والرجعة والإيلاء، والعدة، والرضاع، والنفقات، والقصاص، والديات، وقتال البغاة والردة، والأشربة، والجهاد، والأطعمة والذبائح، والأيمان، والنذور، والقضاء، والشهادات، والعتق فهذه أبواب الشريعة كلها مذكورة في هذه السورة، وقوله: {وإِياكَ نستعين} شامل لعلم الأخلاق وقد ذكر منها في هذه السورة الجم الغفير، من التوبة، والصبر، والشكر، والرضى، والتفويض، والذكر، والمراقبة، والخوف، وإلانة القول، وقوله: {اهدنا الصراط المستقيم} إلى آخره تفصيله: ما وقع في السورة من ذكر طريق الأنبياء، ومن حاد عنهم من النصارى، ولهذا ذكر في الكعبة أنها قبلة إبراهيم، فهي من صراط الذين أنعم عليهم، وقد حاد عنها اليهود والنصارى معاً، ولذلك قال في قصتها: {يَهدي مَن يشاء إِلى صراطٍ مُستَقيم} تنبيهاً على أنها الصراط الذي سألوا الهداية إليه ثم ذكر: {ولئِن أَتيت الذين أَوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} وهم المغضوب عليهم والضالون الذين حادوا عن طريقهم ثم أخبر بهداية الذين آمنوا إلى طريقهم ثم قال: {والله يهدي مَن يشاء إِلى صراطٍ مستقيم} فكانت هاتان الآيتان تفصيل إجمال {اهدِنا الصِراطَ المُستقيم} إِلى آخر السورة وأيضاً قوله أول السورة: {هدىً للمُتقين} إِلى آخره في وصف الكتاب، إخبار بأن الصراط الذي سألوا الهداية إليه هو: ما تضمنه الكتاب، وإنما يكون هداية لمن اتصف بما ذكر من صفات المتقين ثم ذكر أحوال الكفرة، ثم أحوال المنافقين، وهم من اليهود، وذلك تفصيل لمن حاد عن الصراط المستقيم ولم يهتد بالكتاب وكذلك قوله هنا: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} فيه تفصيل النبيين المنعم عليهم وقال في آخرها: {لا نُفَرِقُ بينَ أحدٍ مِنهُم} تعريفاً بالمغضوب عليهم والضالين الذين فرقوا بين الأنبياء وذلك عقبها بقوله: {فإِن آمَنوا بمِثلِ ما آمنتُم بهِ فقد اهتدوا} أي: إلى الصراط المستقيم صراط المنعم عليهم كما اهتديتم. فهذا ما ظهر لي، والله أعلم بأسرار كتابه. الوجه الثاني: أن الحديث والإجماع على تفسير المغضوب عليهم باليهود، والضالين بالنصارى، وقد ذكروا في سورة الفاتحة على حسب ترتيبهم في الزمان، فعقب بسورة البقرة، وجميع ما فيها من خطاب أهل الكتاب لليهود خاصة، وما وقع فيها من ذكر النصارى لم يقع بذكر الخطاب ثم عقبت البقرة بسورة آل عمران، وأكثر ما فيها من خطاب أهل الكتاب للنصارى، فإن ثمانين آية من أولها نازلة في وفد نصارى نجران، كما ورد في سبب نزولها وختمت بقوله: {وإِنَّ مِن أهلِ الكتاب لمن يؤمن بالله} وهي في النجاشي وأصحابه من مؤمني النصارى، كما ورد به الحديث، وهذا وجه بديع في ترتيب السورتين، كأنه لما ذكر في الفاتحة الفريقين، قص في كل سورة مما بعدها حال كل فريق على الترتيب الواقع فيها، ولهذا كان صدر سورة النساء في ذكر اليهود، وآخرها في ذكر النصارى. الوجه الثالث: أن سورة البقرة أجمع سور القرآن للأحكام والأمثال ولهذا سميت في أثر: فسطاط القرآن الذي هو: المدينة الجامعة فناسب تقديمها على جميع سوره. الوجه الرابع: أنها أطول سورة في القرآن، وقد افتتح بالسبع الطوال، فناسب البداءة بأطولها. الوجه الخامس: أنها أول سورة نزلت بالمدينة، فناسب البداءة بها، فإن للأولية نوعاً من الأولوية. الوجه السادس: أن سورة الفاتحة كما ختمت بالدعاء للمؤمنين بألا يسلك بهم طريق المغضوب عليهم والا الضالين إجمالاً، ختمت سورة البقرة بالدعاء بألا يسلك بهم طريقهم في المؤاخذة بالخطأ والنسيان، وحمل الإصر، ومالا طاقة لهم به تفصيلاً، وتضمن آخرها أيضاً الإشارة إلى طريق المغضوب عليهم والضالين بقوله: {لا نُفَرِقُ بينَ أَحدٍ مِنهُم} فتآخت السورتان وتشابهتا في المقطع وذلك من وجوه المناسبة في التتالي والتناسق وقد ورد في الحديث التأمين في آخر سورة البقرة كما هو مشروع في آخر الفاتحة، فهذه ستة وجوه ظهرت لي، ولله الحمد والمنة.
002.8.2- مناسبة ترتيب سورة الأنعام بعد سورة البقرة:
لقد جاء ترتيب سورة البقرة وهي الجامعة لأحكام الدين قبل سورة الأنعام الجامعة لتفاصيل مخلوقات الله وأنعامه. لأن الأصل والمقصد من خلق الإنسان هو عبادة الله {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56)} سورة الذاريات، وحتى يتمكن من العبادة فلا بد من تسخير ما في الأرض وغيرها من المخلوقات الأخرى له {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً (29)}. ولهذا السبب أيضاً افتتحت سورة البقرة بإنزال الكتاب الذي {فيه هدى للمتقين (2)} قبل أن يذكر خلق الأرض للإنسان {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ (22)} ثم تفاصيل استخلافه فيها.
002.8.3- انظر سورة العصر (103.8.1). التي أوجزت فيها مضامين أربع سور: البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، باحتوائها على أربع صفات: الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر.
002.8.4- انظر أيضاً سورة لقمان (031.8.3) تناسب سورتي لقمان والبقرة: وكيف أنها تكررت فيها معاني سورة البقرة. مع اختلاف الأسلوب وطريقة السياق، فالمعاني نفسها التي وردت في البقرة جاءت بطريقة مختصرة في سورة لقمان، لقد اتحدت السورتان في افتتاحيتيهما {ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}. {ألم، تلك آيات الكتاب الحكيم، هدى ورحمة للمحسنين}.
002.8.5- وقال بن الزبير الغرناطي في “البرهان في تناسب سور القرآن”: لما قال العبد بتوفيق ربه {اهدنا الصراط المستقيم (6)} الفاتحة، قيل له: {ذلك الكتاب لا ريب فيه (2)} البقرة، هو مطلوبك وفيه أربك، وهو الصراط المستقيم {هدى للمتقين (2)}، القائلين {اهدنا الصراط (6)} والخائفين من حال الفريقين المغضوب عليهم والضالين، فاتخذوا وقاية من العذاب، خوف ربهم وتقواه، بامتثال أمره ونهيه. ثم أشير من الأعمال إلى ما يستحق سائرها من قبيلي البدنيات والماليات بياناً للصراط المستقيم، فقيل في وصف المتقين: أنهم {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} البقرة، وحصل من هذا حصر الفعل والترك الضابطين لجميع الأعمال كيفما تشعبت، كما مهد في التفسير عند ضم ما ورد هنا إلى قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (45)} العنكبوت، ووقع الفعل صريحا والترك إيماء للتناسب المبين حيث ذكر، ثم بين لهم قدر النعمة عليهم في طلب الهدى من الله في قولهم: {اهدنا} فقيل: {إن الذين كفروا…. الآية (6)} البقرة، ليعلموا أن الهدى من عنده فيلحوا في الطلب ويتبرؤوا من ادعاء حول أو قوة. تم نبهوا على الإخلاص، وأن يكون قولهم {اهدنا} صادرا عن يقين وإخلاص، حتى لا يشبهوا من يقول: {آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8)} البقرة، وبسط لهم حال هؤلاء في ثلاث عشرة آية ما يوضح لهم طريق الهدى الواضح، إذ حذروا من شكوك هؤلاء وحيرتهم فقالوا: اهدنا عن يقين وإخلاص. ثم أعقب ذلك الدلائل المشاهدة: من جعل الأرض فراشاً والسماء بناء، وإنزال الماء، وإخراج النبات، وذلك كله أمر مشاهد يصل إليه كل عاقل بأول وهلة، ثم أعقب بابتداء الخلق وهو قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (30)} البقرة، وذلك كله مبين لقوله: {لله رب العالمين (2)}، {ملك يوم الدين (4)} الفاتحة، إذ من البدأة تعلم العودة لمن تدبر، وقد نبه تعالى بتكرر النبات. ثم ذكر أحوال بني إسرائيل وإمهالهم على مرتكباتهم ومعاملتهم بالعفو والإقالة، وذلك مبين سعة رحمته، وأعلم تعالى أن أفعالهم تلك مما أعقبهم أن {ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله (61)} البقرة، تحذيرا لمن طلب سلوك الطريق المستقيم من حالهم، وإعلاماً لعباده أن المتقين المستجاب لهم عند قولهم {اهدنا} ليسوا في شيء من ذلك، لأنهم قالوا اهدنا عن يقين وإخلاص متبرئين من الدعاوي. ثم أعقب تعالى تفصيل أحوال هؤلاء بقوله: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن (124)} البقرة، ليبين أحوال المصطفى من أهل الصراط المستقيم، فأنبأ تعالى بحال إبراهيم، وإتمامه ما ابتلاه به من غير توقف ولا بحث عن علّة، وهي أسنى أحوال العباد. وفي طرف من حال من قدم من بني إسرائيل وهذا الموضع مما يعضد ما ظهر في قصة أمر بنى إسرائيل في ذبح البقرة من وجوه الحكمة، فتوقفوا وشددوا بعد إساءتهم الأدب مع نبيهم، فأورثهم ذلك نكالا وبعداً، فالصراط المستقيم حال إبراهيم عليه السلام، ومن ذكر من الأنبياء والرسل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ (90)} الأنعام، وهم المنعم عليهم. ثم أعقب ذلك بما نسبوا لإبراهيم وبنيه المصطفين بعد أن بيّن حاله فقال: {أم تقولون إن إبراهيم … الآية (140)} البقرة، وبين فساد اليهودية والنصرانية، وبرأ نبيه إبراهيم والأنبياء عن ذلك، وأوضح أن الصراط المستقيم هو ما كانوا عليه لا اليهودية ولا النصرانية. ثم ذكّرهم بوحدانيته تعالى فقال: {وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ (163)} البقرة، ثم نبه على الاعتبار ودلائل التوحيد، وبين حال من اعتمد سواه جل وتعالى فقال: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا (166)} البقرة، وبيّن سوء حال المشركين: وأنهم لاحقون باليهود والنصارى في انحرافهم عن الصراط المستقيم وحيدتهم عن الجادة، ووقع تنبيه هؤلاء بدون ما ضمنه تنبيه بنى إسرائيل من التقريع والتوبيخ لفرقان ما بينهم، لأن كفر هؤلاء تعنيت بعد مشاهدة الآيات {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً (13)} المائدة، ومتى بُيّن شيء في الكتاب العزيز من أحوال النصارى فليس على ما ورد مثله في بني إسرائيل لما ذكر، وخطاب مشركي العرب، فيما أشير إليه، دون خطاب الفريقين، إذ قد تقدم لهم ما لم يتقدم للعرب، وبشروا في كتبهم وليس لمشركي العرب كتاب، والزيغ عن الهدى شامل للكل، وليسوا في شيء من الصراط المستقيم، مع أن أسوأ الأحوال حال من أضله الله على علم: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)} البقرة، وهنا انتهى ذكر ما حذر منه ونهى عنه من أراد سلوك الصراط المستقيم، وبيان حال من حاد عنه وتنكبه، وظن أنه على شيء. وضمّ مفترق أصناف الزائغين في أصناف ثلاثة وهم: اليهود، والنصارى، وأهل الشرك، وبهم يلحق سائر من تنكب، فيلحق باليهود منافقوا أمتنا ممن ارتاب بعد إظهار إيمانه، وفَعل أفاعيلهم من المكر والخديعة والاستهزاء، ويلحق بالنصارى من اتصف بأحوالهم، وبالمشركين من جعل لله ندّاً، واعتقد فعلا لغيره تعالى على غير طريقة الكسب، والمجوس لاحقون بأهل الشرك. والشرك أكثر هذه الطرق السيئة تشعباً، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم، “الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل”، ومن فعل أفعال من ذكر ولم ينته به الأمر إلى مفارقة دينه والخروج في شيء من اعتقاده خيف عليه أن يكون ذلك وسيلة إلى اللحوق بمن تشبه به، وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم، بقوله: “أربع من كن فيه كان منافقا خالصاً …..”، إلى أشباه هذا من الأحاديث. ثم ذكر تعالى في أول آية {ليس البرّ (177)} البقرة، ما لزم المتقين، لمّا بيّن لهم ما هو خروج عن الصراط المستقيم، وحذروا منه، أعقب بذكر ما يلزمهم، فابتدئ من هنا بذكر الأحكام إلى قوله: {آمن الرسولُ (285)} البقرة، خاتمة السورة، وفصل لهم كثيراً مما كلفوه، فذكر الإيمان وفصل تفصيلا لم يتقدم، وأعقب بذكر الصدقة وموقعها على التفصيل، وفي ذكر إتيان المال عقيب الإيمان إشعارا بما فيه السلامة من فتنة المال: {إنما أموالكم وأولاكم فتنة (15)} التغابن، وإشارة من الآية إلى أنه يبعد حب المال بل يستحيل وجوده ممن أحب الله سبحانه، وأن محبة الله تعالى تهوّن عليه كلّ شيء: {لا تمدن عينيك (131)} طه، {لا نسألك رزقا (132)} طه. ثم ذكر الزكاة والصيام والحج والجهاد إلى غير ذلك من الأحكام كالنكاح والطلاق والعدد والحيض والرضاع والحدود والربا والبيوع، إلى ما تخلل هذه الآيات من تفاصيل الأحكام ومجملها. وقدم منها الوفاء بالعهد والصبر، لأن ذلك يحتاجِ إليه في كل الأعمال، وما تخلل هذه الآيات من لدن قوله: {ليس البر (177)} إلى قوله {آمن الرسول (285)} البقرة، مما ليس من قبيل الإلزام والتكليف فلسبب أوجب ذكره، ولتعلق استدعاه. ولما بين سبحانه أن الكتاب هو الصراط المستقيم، وذكر افتراق الأمم كما شاء، تناول أحوال الزائغين والمتنكبين تحذيراً من حالهم، ونهياً عن مرتكبهم، وحصر قبيل المتروك بجملته، وانحصار التاركين، وأعقب بذكر مستلزمات المتقين وما ينبغي لهم امتثاله والأخذ به من الأوامر والأحكام والحدود، أعقب ذلك بأن الإيمان يجب أن ينطوي على ذلك، وأن يسلم الأمر لمالكه، فقال تعالى: {آمن الرسول ….(285)} البقرة، فاعلم أن هذا إيمان الرسول ومن كان معه على إيمانه، وأنهم قالوا {سمعنا وأطعنا (285)} البقرة، لا كقول بني إسرائيل {سمعنا وعصينا (93)} البقرة، وأنه أثابهم على إيمانهم برفع الإصر والمشقة والمؤاخذة بالخطأ والنسيان عنهم فقال: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها (286)} البقرة. فحصل من هذه السورة بأسرها بيان الصراط المستقيم على الاستيفاء والكمال أخذاً وتركاً، وبيان شرف من أخذ به، وسوء حال من تنكب عنه، وكأن العباد لما عُلِّموا أن يقولوا: {اهدنا الصراط المستقيم (6)} الفاتحة، إلى آخر السورة قيل لهم: عليكم بالكتاب إجابة لسؤالهم، ثم بيّن لهم حال من سلك ما طلبوه، فكأن قد قيل لهم: أهل الصراط المستقيم وسالكوه هم الذين من أمرهم ومن …، والمغضوب عليهم من المتنكبين هم اليهود الذين من أمرهم ومن شأنهم …، والضالون هم النصارى الذين من أمرهم ومن شأنهم …، فيجب على من رغب في سلوك الصراط المستقيم أن يحذر ما أصاب هؤلاء مما نبه عليه، من أن يأخذ نفسه بكذا وكذا. وأن ينسحب إيمانه على كل ذلك، وأن يسلم الأمر لله الذي يَطلب منه الهداية، ويتضرع إليه بأن لا يؤاخذه بما يثمره النسيان والخطأ، وألا يُحمله ما ليس في وسعه، وأن يعفو عنه، إلى آخر السؤال.